إعداد وتنسيق: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
بابا طاهر، شاعر كردي لوري، عاش في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. ويسمى بابا طاهر الهمذاني، أو (بابا طاهر عُريان) ، هو فيلسوف وشاعر صوفي وغزلي ينتمي لقبيلة لَك الكردية المعروفة في كردستان إيران، وهي إحدی قبائل الكرد الجنوبيين من فرع اللُري، وقد كتب قصائده أيضاً باللهجة الكردية اللُريه، يلقب أحياناً باللوري، نسمة إلى بلاد لورستان.
يعدّ أول من كتب الشعـر في الأدب الإيراني المدوّن على مدى تاريخه، وهذه الحقيقة يقـرّ بها الإيرانيون الفرس أنفسهم ويركنون إليها، بل ويعتزون بذلك إلى الدرجة التي عصفت بها رياح التعصب القومي والنزعة الذاتية برؤوس الكثير من مؤرخيهم الذين ـ رغم قبولهم للورية بابا طاهر ـ تداعوا إلى إنكار كردية اللور، وتنسيب هذه الشريحة الكردية بأسرها إلى الفرس والترويج لذلك ولسان حالهم يقول: “لو أننا سلّمنا بكردية بابا طاهر فإن هذا يعني أن الأدب الإيراني كردي في أساسه!”. وهذا بالطبع ما يستحيل على عامة المثقفين الإيرانيين الفرس تقبله ناهيك عن عوامهم.
هناك عدد قليل من المجموعات الشعرية التي تم نشرها في ايران منذ بدء الصحافة تحتوي على بعض العينات القليلة من رباعياته ولايوجد عن سيرته الذاتية سوى القليل وأول محاولة لرفع الغموض الذي يغلف حياة بابا طاهر وردت في كتاب "معجم الفصحاء " لرضا قلي خان المطبوع سنة 1295 هجرية في طهران حيث اشارت مقدمته في صفحة 326 الى أن " بابا طاهر الهمداني المعروف ب "العريان" كان واحدا من ابرز المتصوفين في حقبته كما أن هناك اراء لبعض الكتاب والتي اشارت الى انه عاصر سلاطين السلاجقة حيث كان يعتبر من اول المشايخ وازدهرت شهرته عام 410 هجرية ومات في حياة الفردوسي وقبل عمر الخيام و الشعراء المعاصرين له".
وجاء في اقدم مخطوط كتب عن بابا طاهر الهمداني في باريس ويدعى هذا المخطوط " راحة الصدور وآية السرور" لمؤلفه أبو بكر محمد بن علي الراوندي والمكتوب بين عامي 599 و 600 للهجرة ويبدأ من زيارة السلطان السلجوقي طغرل بك لهمدان ومشاهدته لبابا طاهر والذي قدم له نصائح مفيدة وباركه وقدم له ابريقه لكي يتوضأ وكسر حلقته واعطاه اياها . هذا العمل كان ذا تقدير كبير عند السلطان السلجوقي بوصفه تذكارا من رجل مقدس وكان يرتدي تلك الحلقة كخاتم في اصبعه عند المعارك.
لذا كانت الأدلة و الاعتقاد القاطع بان بابا طاهر الهمداني كان قد اشتهر في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي وكان الرجل يتمتع بسمعة مقدسة باعتباره رجلا متصوفا ومجذوبا .
لقب بابا طاهر بالعريان "لغزارة علمه التي تقود الى التعرف على اصل الاشياء وحقيقتها اي تعرية الشيء من قشرتها او ما يحيط بها لكي يكون شفافاً واضحاً وجلياً في عرض حقائق الاشياء " وكان بابا طاهر يجوب شوارع همدان وعرف باسم بابا بالإشارة الى الدرويش او المتصوف .
ويروي رضا قلي خان في كتابه " ان باباطاهر كان في بداية حياته كان شخصيا اميا وكان يعمل حطابا وكان خلال النهار يذهب الى المدرسة ويستمع الى الطلاب وهم يقرأون دروسهم لكن الطلاب كانوا يسخرون منه وفي يوم توجه الى احد الطلاب الدارسين وسأله قائلا " أتساءل ماالذي يفعله الطلاب لكي يتمكنوا من فهم ما يقوله الأستاذ لهم ؟ ". فاجابه الطالب مازحا " انهم يدخلون هذه البركة في منتصف الليل ويغمسون رؤوسهم في الماء أربعين مرة وبعد ان ينتهوا من هذه العملية سيفهمون تعاليم الأستاذ". بابا طاهر صدق هذه القصة وقام بالعمل نفسه على الرغم من برودة الطقس القارسة عند ذاك وهو يغمس براسه في الماء أربعين مرة ظهرت ومضة خارقة من الضوء ودخلت في فمه .
يقول الجغرافي المعروف ياقوت الحموي: “اللور جيل من الأكراد في جبال أصفهان وخوزستان وتلك النواحي تعرف بهم فيقال بلاد اللر ويقال لها لرستان ويقال لها اللور أيضاً”؛ ويشير ابن حوقل والإدريسي كذلك إلى أن: “لرستان بلد غني يعيش فيه الأكراد”، أما في زمن الفتوحات الإسلامية فقد أطلق المؤلفون العرب تعبير “كورد” على قبيلة “اللورية” القاطنة في خوزستان كما تذكر لنا المصادر.
في حين يستند مؤرخو الأدب الفارسي في إثبات دعواهم تلك إلى أن ولادة الشاعر قد تمت على أرض تتبع لإيران الحالية، وكذلك على ورود بعض الألفاظ والتراكيب واللواحق الفارسية في شعره، وهذه حجة مردودة، كون اللور أقرب الكورد جغرافياً إلى الفرس، ومن الطبيعي أن تقوم بين الشعبين المتحاددين علاقة إقراض واقتـراض لغوي، ناهيك عن القـرابة العرقية واللغوية الأصيلة بين الكورد والفرس ضمن الرابطة الآرية.
وعلى أية حال، فليس هذا مجال بحث في أصل الـرجل ولا تتبع نسبه، لأن أية دراسة موضوعية يقوم بها مختص في علوم اللغات أو الأعراق كفيلة بإثبات صحة هذا من خطله، ونحن إنما يهمنا دراسة شعره وإثبات ريادته.
إن الجزء الأعظم من سيرة بابا طاهر وسنوات حياته محاط بالأسرار والغموض، حتى إن نسبته إلى همذان يكتنفها بعض الشك, ووفقاً للمراجع التاريخية القليلة المتوفرة بين أيدينا، فقد ولد بابا طاهر في أواخر القرن العاشر الميلادي، وتوفي في مطلع القرن الحادي عشر للميلاد (بعد 1055 م حسب الموسوعة البريطانية)، وقد لقب بالعريان مما يوحي بأنه كان درويشاً سائحاً وزاهداً فقيراً أو متصوفاً باطنياً.
ويقال إن هذا الشاعر الفذ كان في بداية أمره أمياً يعمل في قطع الأخشاب وبيعها قبل أن يتجه إلى دراسة علوم الدين في بعض المدارس الدينية، غير أن السخرية والازدراء اللذين لقيهما على يد زملائه الدارسين هناك بسبب قلة علمه وضحالة اطلاعه دفعاه إلى أن يهجر الدراسة ويهيم على وجهه.
وبعد مدة لاحت له بعضُ الحقائق والأفكار الفلسفية، فعاد إلى المدرسة وتحدث بما رأى، فأذهل الجميع بسعة علمه وفيوض المعارف المفاجئة التي نزلت عليه عن غير سابق تمهيد. وأشهر ما عرف عنه هو وضعه للرباعيات (دوبيتي) المكتوبة بلغة عذبة سائغة وبإخلاص وروحانية نادرة تصبغها مسحة فلسفية باطنية وعميقة. ترجمت بعض أشعاره إلى الإنكليزية في (E-Heron – Allens ) بعنوان (مرثيات بابا طاهر) سنة (1902م ). ثم نشرت سنة ( 1937) تحت عنوان (أشعار صوفي فارسي), ثم نشرها (مهدي ناخوستين) تحت عنوان (رباعيات بابا طاهر عريان) سنة ( 1967)، ثم طبع ديوانه في طهران للمرة الأولى سنة (1983.م)، وأعيدت طباعته سنة 1998 في استانبول بتركيا بمجهود بذلته مجموعة مجلة (نوبهار) الكوردية، وشرحه عن اللورية (صباح كارا)، وخرج هذا العمل إلى النور تحت عنوان (ديوان شعر بابا طاهر الهمذاني ـ دو بيتي) مشفوعاً بترجمة دقيقة عن اللورية إلى الكوردية البهدينانية.
يتمتع بابا طاهر حتى اليوم بسمعة عظيمة، وتبجيل لا نظير له في أوساط عامة الفرس ومثقفيهم الذين شيدوا له مقاماً فخماً يتوسط مدينة همذان حيث مسقط رأسه. شعره :
لا شك أن شعر بابا طاهر بحاجة إلى دراسة معمقة من لدن المختصين من نقاد الأدب ودارسيه للكشف عن معمياته ومقاصده وإضاءة زواياه وأركانه، وتقويم بنائه وأسلوبيته، وهذا ما يخرج عن طاقتي. ولذا سأكتفي في هذا المجال الضيق بإيراد انطباعاتي الأولية المختصرة جداً عنه، وذلك قبل تذييله لاحقاً بالترجمة الشعرية لبعض رباعياته المختارة لتكون عوناً للقارئ على فهم نفسية صاحبها وسبـر أغوار شخصيته الأصيلة.
إن أول ما يمكن ملاحظته في شعر “بابا طاهر” من ناحية الشكل هو قيامه على نظام (الدوبيت) أي الرباعيات، وهي تضمين الفكرة الواحدة التامة في أربعة أشطر على الوزن ذاته والقافية ذاتها، وهذا الفن معروف عن العجم ومأخوذ عنهم. وبابا طاهر هو أول من ألف في هذا الضرب من الشعر. وعلى هذا فإن ما عرف عن شاعر الفرس الأكبر عمر بن إبراهيم النيسابوري الشهير بالخيام ( 1050 – 1123 ) ونسب إليه من أنه رائد الرباعيات ليس دقيقاً، إلا إذا عددناه مقتبساً ذكياً ومتتبعاً نجيباً لخطى معلمه الهمذاني العظيم، الذي ليس في ديوانه الضخم سوى أربع قصائد لا تنتمي إلى هذا النظام ،مقابل ( 355 ) رباعية القليل منها مشكوك في نسبته إليه.
والطابع الغالب على قصائد الهمذاني الذي لاشك أن القارئ سيلاحظه هو التشاؤم والسوداوية والسخط من جهة، والنرجسية والكبرياء والشعور بالتفوق من جهة أخرى، وهي الصفات التي يتقاطع فيها عامة المبدعين، ولا سيما الشعراء منهم, ونلمح ذلك جلياً خلف بعض الأبيات المترجمة أدناه، والتي تكشف لكل ناظر نفساً أبية وروحاً وثابة ولكن قلقة… قد تتطاول حتى تحسب نفسها نسراً، فتطمع في محاسبة القدر وقد تتطامن حتى ترى نفسها مجرد جيفة فتتذلل في الشكوى وتتخيل نفسها في القبـر تحت رحمة الديدان والنمال والأفاعي وسائر هوام الأرض. كل ذلك على خلفية من نزعة التصوف والزهد الإسلامي المنتعش في تلك الفترة التاريخية بالتحديد، بكل ما يحتوي عليه من الأحوال والإشراقات التي تستدعي التذلل لله إلى درجة الإمحاء من جهة والجرأة البالغة عليه من جهة أخرى.
أما أغراض الشاعر فتتراوح بين الغزل والشكوى والحكمة والفخر، فلا مديح ولا هجاء ولا ظرف ولا خلاعة.
وقد كلفت نفسي كما أسلفت ترجمة منتخب من هذه الرباعيات إلى العربية، وحرصت كل الحرص على الدقة والأمانة جنباً إلى جنب مع الحفاظ على جرس الأبيات وموسيقاها، بعد عملية تطلبت تغيير الوزن وتبديل القافية وأخضعتها لنسقٍ تبدو فيه المعاني متصلة متلاحقة والأشطر متداركة متكاملة, وللقارئ بعد ذلك أن يرى برأيه فيمسك القمح ويطرح الزيوان، وفي هذا غاية الإنصاف.
الرباعيات
(1 )
صورتك الجميلة ياحبيبي لاتغادر فؤادي
وخدك الناعم جزء مني
ساحكم اغلاق عيني بقوة ياحبيبي
كي تغادرني حياتي قبل تغادرني صورتك
(2 )
لقد ذهبت لأصطاد مرة كالصقر حينما
ارسل فجأة سهم الى جناحي
فكن حذرا أيها الهيام الطائش مني
فامام العلو تنحني اقوى الاقواس.
(3 )
بدونك يا الهي اعرف ان عطر الزهور الجميل
لاينمو في الحديقة
ولادموع للحزن ،على الرغم من أن الشفاه تبتسم
تغتسل في فيض البهجة اللامع .
( 4 )
أنا محاط بالاستبداد القاسي
وقلبي يتذكر ان على عيني أن ترى
ساصنع سيفا مستقيما من الفولاذ
لأطفيء عيني واطلق قلبي المسكين حرا
(5 )
يا من لاتملك القليل ولا الكثير
ولا المعرفة السماوية من معرفة الحانة
وذلك هو اللاشيء
آه كيف يمكنك ان تتوقع البتة
من العالم الذي لم تستكشفه ابدا ؟
(6 )
ربما تكون اسدا او نمرا أيها القلب
لكنك في الحرب ضدي لن تسقط
سوى في يدي ، وساريق دمك
عند ذاك سأعرف مالذي جعلك هكذا
(7 )
منذ ان غادرت نهاري باختفائك
غدا الحب كله ظلاما ، فتعال وانر ليلي
باقواس حواجبك الجميلة
واقسم انني باستخفافي لايشاركني سوى الحزن في سريري
(8 )
أيها الأمير، انا في قلبي فريسة للبلاء
انه هو نفسه في كل ليل ونهار
وانا غالبا ما أحزن لانني يجب أن حزن كثيرا
لأن احدا اخذ قلبي الكئيب بعيدا
(9 )
انت ياحبيبي تدفعني لأن ابحر في دمي
فالحزن يكسوني و يعروني النحول
لكنني اتباهى بك كما يتباهى فجر بشمس
الى أن ينفخ اسرافيل في الصور
( 10 )
لمثل هذا الصيت العظيم ، انا طائر العنقاء
وضربات جناحي تحرق البلدة
فاذا مارسم احد صورتي على حائط بيت
فان ذلك البيت النحس سينهار محترقا
(11)
تلك العبارة " نعم ، هو الله " تخيفني
ذنوبي مثل أوراق على شجرة
فحينما يقرأ القاريء كتاب الموت
كم سيكون خجلي من سجل كهذا
(12 )
وأسفا.. الى متى يجب علي أن احزن؟
ومحروما من كل شي تتدفق دموعي اليك
مطرودا من كل عتبة ، سأتجه اليك
فاذا انت خيبتني الى اين اتجه ؟
(13 )
هل ستأتي الي ؟ ترحيبي بك لايزدريك
فاذا لم تأتي فمن سيكون اصل احزاني المريرة
امنحها لي أو ساموت من ويلاتك
ارفعها ، اوساضعهن معها .
( 14 )
قلت لأبحث عن لحظة لحبي
ايها الجمال ، لأجل الله ، لاتسرع كثيرا
فقلبي سجين عندها
وبحبها لست سوى متخاذل في قافلة الحياة
(15 )
حتى وان كنا سكارى فايماننا كله فيك
ضعفاء او مجانين لايزال لدينا الايمان فيك
مجوسا أو نصارى او مسلمين
مهما كان ديننا ومذهبنا فايماننا هو انت واليك
(16 )
سعيد هو من يقضي ليله وانت في قلبه
ومن تعاليمك لايحتاج ابدا الى الترحال
حتى وان كنت ضعيفا في الاقتراب منك
سابقى قرينا لأولئك الذين يعرفونك كما انت
(17 )
فلناتي ونبدأ ولانترك احدا يفشل
لنشكل دائرة ونندب احزاننا
ولنجلب الموازين ونزن اوهامنا
اكثرنا نشوة سترجح كفة ميزانه
(18 )
البحر في كأس هذا هو مقياسي
ونقطة في حرف ستكمل صفحة
وواحد في المليون رجل مثلي أنا
فانا مثال مشرق لعمري .
-----------------------
المصادر والاقتباسات:
- إبراهيم فرحان خليل/ التآخي- كلكامش/ .
- عمار كاظم محمد/ النور/.
- مصدر الرباعيات: The Lament of BaBa Tahir/ EDWARD HERON-ALLEN/ London - 1902
-موسوعة ويكيبيديا الحرة.