بقلم: المعرفي ريبر هبون
تغيرت العلائق الإنسانية لتصبح مصنفة بين الولاءات ، ولتكون القيمة الطبيعية للتواصل الطبيعي ضئيلة أمام التودد السلطوي والتفاف الأتباع حول بعضهم البعض، إن هذا التغير، والتقلب في المزاج ، عزز من الاستعداد الوحشي للإنسان المندفع من تلقاء نفسه لعبادة الغضب ،باتت العلاقات النفعية سائدة محل العلاقات الطبيعية، وتعددت وجوه الإنسان المادية ، وبات أصعب مما كان عليه في زمن بساطة حياته البدائية، بات ينقاد لواقع قائم على السطوة وتمجيدها، لتكون بمثابة المرآة أو المعيار لفهم الجودة والسعي إليها، فالوحش هنا يسيطر ويستقوي على الإرادات، ويكسيها بمظاهر التفاخر والقوة، ليكون البهاء والجمال والأناقة مظهراً ناعماً من وحشية الحياة العصرية، التي تقنع بها الغالب من البشر بذريعة عصرنة الحياة والقيم، هذا يشكل بروزاً باتجاه الاستشراس في المنافسة والصراع وكذلك الاحتكار،حيث جمع المعتقلين في السجن واستقبالهم عبر ابتداع نوع من التعذيب يسمى حفلة الاستقبال، يعتبر أحد إشارات توسع معامل صناعة الوحش، تحويل الإنسان إلى مخلوق غامض الأفعال، غامض التصرفات، يقتلع الأخضر واليابس، يتشبه بالدمار، من خلال إيذاقه مر العذاب، عبر بوابة القهر والانتقام، فما ظاهرة المعتقل السياسي بطبيعتها إلا تعبيراً عن صناعة الوحش تضخم الرعب في حياة الأفراد يقودهم بالتدريج إلى حتفهم، وينقلهم لعالم ضيق ممتلئ بالنقمة والحركة غير المنظمة ، تعبئتهم بروح التخبط والمرض، حقنهم عبر الدين. بوصفات من الإيمان الأعمى المنغمس في أوحال العنف وفهم الإيمان على نحو يشبه تعاطي المدمنين للمخدرات، ندرك بتجلي حاجة العقل للفرار من قيود الرتابة للتوغل بعمق للمعنى الماورائي لإبراز المشاهد والتفنن في رسم طرائق التفكير وصناعة الحدث تبعاً للفكرة الباعثة على الانشداه والتحول عن طور التلقي العادي لقبول الفكرة ومناقشتها من ثم خلق سجال حولها،فهم الداخل وما يعتريه من قلق دائم من الموت أو التلاشي ، وانحسار القوة بغتة، بعد عهود عزة وجلد، حقيقة ذلك الاتحاد التاريخي بين رجل الدين والسلطة هذا الاتحاد أفرز العديد من العلل الوحشية الطابع ، عزز من الخوف بكونه مدرسة وعلم صناعة الإنسان في شقيه المتدين وشديد الخوف من الحاكم ،عبّد الطرق نحو بروز أنظمة قوية وعنيدة تتمتع بخبرات عديدة في ضبط فوران الجماهير ،وطد دعائم ثقافة شمولية دينية تستقي مزاياها من الميثولوجيا والأوهام التي استنبطت منهاج الحياة التقويمي المفروض على التلاميذ منذ طفولتهم، قاد النخب الشابة للتفكير بكل شيء عبثي عدا الخوض في مواضيع التغيير،والدمقرطة الجوهرية.
ومما لا شك فيه فإن بناء الأنموذج المعرفي لدى الفرد في ظل هذا الواقع ، يحتاج لبروز مراكز تنويرية كبيرة تتواصل مع الجماهير من خلال الفن والأدب والفكر ، وذلك يحتاج لمؤسسات قوية تعمق حواراتها مع السلطة السياسية بل وتتشارك في صناعة القرار والذوق العام، دون ذلك لن تتحقق الثورة المعرفية التي تتميز بكونها لا عنفية وسلمية وتتحلق حول الصالح العام وتنبذ بطبيعتها الفساد، إن السلطة السياسية تعتبر حالة راسخة بطبيعتها، أما العقلية السلطوية فيمكن تذليلها فكرياً عبر إتاحة الفرص لكل المعرفيين والمعرفيات بالانخراط في قاعدتها من أعلى هرمها لأسفلها، ذلك يحول دون بروز التوحش، وهو ما نسميه بالبديل الناجع، حيث لا تكسر العقلية الشمولية إلا بالتدرج وعبر التركيز على تنمية العقل الإبداعي لدى الفرد ، كي يتمرس بأصول وفنون الإدارة منذ طفولته.
التفكير خارج التمجيد والإذعان للسلطة بات شيئاً صعباً ، حيث يظل العقل الإبداعي للمعرفية والمعرفي منشغلاً في طرق التخلص من أورام السلطة ورواسبها على الذهن، لا انفكاك جلي عن أزمة التفكير الحادة والتي يعيشها الإنسان المنعزل في مداراة تساؤلاته والحد من تسربها للكوامن لتكون دافعاً خصباً للتمرد والانتفاضة فيما بعد، حيث التشاؤم والكآبة يمثلان الوجه العام للحياة، مما يفرز عن خضمها ضياع الإنسان الشرق أوسطي في بوتقة التجهيل، والاستسلام فيما بعد لنمطية فكرية مبتذلة تنم عن كسل روحي وذهني لا يتم تخطيه إلا بصعوبة، فالربط بين الأديان والاستبداد منطقي جداً ويعبر عن توأمية فيما بينهما،إن الولوج للأطوار الأولى يساعد في فهم أساليب الإخضاع وبرمجة العقول على الانفعال والاستياء لأي فكرة تسعى للذهن بعفوية، إن علاقة الاستبداد والدين علاقة توأمية حيث هنالك تقاطعات عديدة وحوادث يرويها التاريخ العابر للمفاهيم والقارات ، يخبرنا عن أطوار التمزق العائلي تبعاً لمفرزات السلطة الأبوية ، وميراث الذكورية هائل ولا يمكن التنصل منه بسهولة، ناهيك من أن المرأة الآن في الشرق الأوسط منقسمة لقسمين، فئة تصون ميراث الذكورة وتتعصب له أكثر من الرجل ذاته ، ومثاله المتدينات المتصلات بإرث التعاليم السماوية، ناهيك عن أديان أخرى اعتبرت الرجل المخلوق الأكثر تجلي وكمال، الفئة الأخرى والتي يمكن تسميتها بالفامينية وهي قوة ناشئة وتعتبر أقلية في صناعة الرأي الأنثوي المعاصر والذي بإمكانه أن يهيأ المناخ لاتحاد وشراكة نوعية مع الرجل، إزاء ذلك الاضطراب العالمي، لا نجد سوى غبناً يمارس على المرأة يؤثر سلباً على الرجل في آن ، ويضعه بمواجهة الضغط الاحتكاري وكذلك يقوده لحروب عسكرية وأزمات اقتصادية شتى،فاحتدام الجدل بين الرجل والمرأة في الأوساط المحتقنة سياسياً واقتصادياً ، قاد إلى إفلاس إنساني على صعيد العلاقة التشاركية، ووطد من دعائم مقولة (1)سارتر : " الجحيم هو الآخر" لقد بتنا نشهد جحيماً في هذا التواصل،فالرفاهية الاقتصادية ، قادت العلاقة التشاركية إلى نوع من الخواء وانعدام التآلف، بسبب سيطرة العقل المادي على نمط الحياة الإنسانية،إن تفعيل الخطاب المعرفي المستند على التوافق الروحي المادي ، يعتمد على
. الحب والمعرفة ليحل بديلاً عن الخطابات الدينية والشمولية بشقيها القوموي أو اليساري،
فيما لا شك فيه فإن الآداب والفنون تتأثر بعملية التصادم السلطوي ، هنا يمكن القول أن المعرفيين يقفون بعيداً عن إملاءات السلطات وضغوطها، ولا يبتعدون تماماً عن المشهد إلا على نحو لا يخدش نزوعهم المجرد والمحايد باتجاه تنمية الأفكار الجديدة سواء اجتمعت مع السلطة أم ناهضتها, هنا يمكن تمييز المبدع الصالح من الطالح ، فالمعرفي الحر يدخل
. في الصراعات بعينه لا بعين السلطة أي الممول، ويبحث دوماً عن خيارات تدافع عن الجماهير والأجيال
إن ممارسة الفلسفة ليست ضرباً من ضروب الاعتقاد بممارسة الخيال وما ينبغي أن يكون فحسب ، وإنما هي مراجعة لتقاليد السلطات في حكم المجتمعات، وتعمد إلى الفحص والتنقيب والمراجعة استناداً لطبيعة الصراع الطبيعي وضغط الطبقات وتصادم الفئات الاحتكارية التي تحاول احتكار المنافع وتقدم على فعل كل الأضرار في سبيل بقاء نفوذها.
هل يمكن إزالة مفاهيم السلطة في اللاشعور الجمعي، بمجرد ظهور إدارة أخرى ، وهل يحل المسألة بروز تنظير إيديولوجي بديل عن السلطة السابقة، أم أن تلك السلطة الجديدة لابد وأن تبقي على عوائد السلطة السالفة كون النفوس تستسيغ نمطاً من الحكم يصعب الفكاك منه، إلا بعد سنوات من التدريب والتأهيل، ثم أن ثمة سؤال أكبر، أي سلطة يمكنها تحقيق الرفاهية في الحياة لمجتمع خرج بالأمس من سيطرة النظام القومي، فالتمرد والقمع صنوان وهما مجاوران عبر الزمن لبعضهما، حيث يتحطم نظام قائم على يد حركة تدعي أنها البديل الأفضل، وفي النهاية يمارس الإنسان التوحش دون وازع، وتختلق المبررات الجمة لممارسته ، ولا يدخر أي خطاب يعزز شعبيته وتأثيره على تلك الوقود الجماهيرية ، فهي المادة الرئيسية لكسر رهبة السلطة ، وثمة نقطة جلية يمكن بيانها بهذا الصدد ويتعلق بطرق الاستشراف لبروز هذا الوحش "الثورة" حيث استشرف فولتير (2) الفرنسي ما قبل وفاته 1787 عن قيام ثورة ما حينما قال : „ إن الشباب سيكونون أسعد حالاً لأنهم سيشهدون أشياء بديعة جميلة، الفرنسيون يأتون متأخرين دائماً، لكنهم يأتون في النهاية" حيث في عرف السلطة ثمة معارف تتيح لها عبرها زيادة الهيمنة على الناس ومعارف تجعل الناس تتحسس عظم مصائبها وفواجعها، ثم تقوم بالتحرك محاولة انتزاع حقوقها، حيث نتأمل تخلف الإعلام لدرجة منع "الستلايت" في التسعينيات لغاية أواخرها، في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد، وكذلك لا يزال ذلك محظوراً في عدد من الدول الإسلامية كإيران،وظلت وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك واليوتيوب محظورة في سوريا ما قبل 2011، وعلى الرغم من كونها مباحة راهناً، إلا أنها لا تزال قيد رقابة مشددة في سوريا وتركيا وإيران وغالب الدول إسلامية التوجه ، حيث ممارسة الفرد لحياته الافتراضية على الانترنيت مثل تحدياً للسلطة الشمولية القومية والدينية ، حيث جعلت الشباب يفكرون بالجنس كموضوع إدماني ترويجي عبر زجهم في بوتقة اللهو والعبث وإلهاءهم عما يتصل بموضوعات الحياة شديدة التأثير والتي تتعلق بالبطالة والمنهاج الدراسي والضرائب وما شابه ذلك من مواضيع ساخنة، نجد أن الرقابة على الكتاب أيضاً، جعلت الكتّاب في حالة من خوف دائمة عبر عجزهم عن قول ما يريدون.
، إن للسلطة القامعة أثراً سلبياً على تطور الأدب والفكر ، حيث ينجم عن ذلك القمع المتواصل نشوء فرق زهدية تعتكف بصمت في الأروقة الخالية ، محاولة الاستمرار في صمتها المطبق وتصريحها الخجول في نعت السلطة بالوباء، هذه الحالة من الزهد عمت جموع المعرفيات والمعرفيين ، إذ لا يجدون عزاء نفسياً يساعدهم على قبول الواقع والتعامل معه بما هو متاح، فيغوص الشعراء في الشعر الرمزي، ويغوص الفلاسفة بما هو بعيد عن واقع مجتمعاتهم بعيداً عنها ليقوموا بإنشاء مناخات لا يمكنها أن تردع الألم المعاش على نحو مباشر ، حتماً في ظل السلطة البعثية لن نجد سوى فريقين متناقضين ، أحدهما غارق في الإرتهان بمغازلة السلطة ومديحها والأخرى تعيش في حالة من الجنوح باتجاه تناسي حقيقة الحياة وما يتضمنها من سكوت عميق واستماتات كثيرة في كي الجرح،إن الفنون في ظاهرها تشكل عماد بقاء الإنسان في صفاء وتأمل وفي باطنها تجسد تحدٍ لوهم الخوف الذي تفرضه السلطة الشمولية في العقل الباطن للجماهير، فالحقائق المعرفية وليدة الفرضيات الخيالية فالنهضة المعرفية سلاح الفكر الحقيقي ، تنظيم لجهود المعرفيات والمعرفيين يعود ريعه للجماهير بكافة شرائحها واتجاهاتها ، لكن لا بد من إيلاء المبدعات والمبدعين مكانة خاصة تتمايز عن سواهم كونهم يشكلون بديلاً طبيعياً وحتمياً لكل الوصوليين ممن استخدموا الفساد والبطش كوسيلة بقاء ، فكسر رهبة التمثال ، عملية لابد من القيام بها أفراداً وجماعات، ، فاتحاد المعرفيات والمعرفيين الكبير يمكّن الناس من الثقة بنفسها وقدرتها على الانتظام وتكريس جهودها المدروسة والهادفة إلى تغيير الحياة وتأهيل الذين لا يتوانون عن تشويه منجزات الإنسان العاقل، وحيث أن اللغة الموضوعية تتجه دوماً لمخاطبة الذكور دون النساء ، وجب التأكيد أبداً من أن الإتحاد المعرفي لا يتشكل أو يتكلل بالنجاح دون وحدة النبوغ الفكري الذي ترفع بنيانه المرأة إلى جانب الرجل، دون التفرد بالخطاب الذكوري المتجسد في أساليب اللغة، وأدواتها الاشتقاقية التي تتوجه للرجل بكونه المهيمن العضلي، فالأهم في هذا الصدد أن ننظر بأن تثبيت منجزات الإنسان العاقل في كل ميدان سيسبقه أو يليه محاولات التأهيل الفكرية للفئات العنيفة أو التي ارتكبت أفعالاً إجرامية أو المغرر بها دينياً أو قومياً ونعني بهم الجنسين، عالم الرجال والنساء على حد سواء، حيث أن انحسار تنظيم الدولة الإسلامية كمثال قريب خلّف الآلاف من الأسرى، أخصهن النساء اللاتي يعتبرن المركز الإشكالي والقادر على نقل إرث التطرف للإطفال وبأمانة، لهذا بات ضرورياً تأهيلهن تربوياً وفكرياً وعبر مراحل، لغاية مرحلة التشافي، فالوحشية السلطوية والوحشية العائلية في جوهرها واحد، وإن أي مواجهة مع السلطة لا تتم على نحو أفراد أو بقرارات أحادية محدودة وإنما تتم من خلال تمكن الإنسان من تجاوز الصدمات والتعايش مع الأمر الواقع، التفكير بمناهضة هذا الظلم وتأسيس بذور تآلف حقيقي ودافئ يدفع الأفراد المستنيرين للانطلاقة الحرة والمدروسة، فالذكورة بحاجة إلى ربطها الرمزي بمفهوم النبل، أكثر من ربطها بمفهوم الفحولة، حيث الذكورة المبتغاة معرفياً تعني اللطف والوداعة في الإقبال على الجنس الآخر، والأنوثة المعرفية تعني الإستجابة الواضحة لإيحاءات الحب ودعواته للتشارك الحقيقي الذي سيقضي بدوره على بذور
. نظام السلطة الشمولية ويمحي آثارها السلبية المتجسدة في جملة تقاليد وعادات مرتبطة حكماً بالإسلام السياسي
إن التشاركية المعرفية حسب "الحب وجود والوجود معرفة" تقف على النقيض من خيار الحركة الفامينية، وإنما تسعى أبداً لبث البذور القوية لإنتاج نهضة تتحقق باتحاد الجنسين، فبوصول النخب المعرفية القوية إلى الحكم، نستطيع أن نقول بوجوب توطيد معالم نظام حر يقضي بصرامة على أنظمة الحكم المذهبية ذات الصبغة القومية ، عبر إحياء مجتمع المعرفة القادر على ألا يبرح أجهزة الإدارة بل يلازمها ويصحح نواقصها ، حيث تعتبر اللوبيات المجتمعية شكلاً متمماً من إدرات المركز،
. ولازماً ضرورياً لتطويرها حسب مقتضيات مصالح الجماهير ومنافعها
حرب السلطات ضد روحانية الشعوب ومحاولتها الفاشلة في ترميم ما يتهدم باستمرار ، أربك كل دعائم الاستقرار والأمان ، وجعل الفئات المدركة لفداحة الواقع تذهب باتجاه خيارات عقيمة ومتعبة ، إما المقاومة أو الهروب، أي الخروج القسري، وبذلك تتعمق الهوة بين الجماهير والمنظومة السياسية والتي بدورها تسطو على ميادين الحياة ، وتسرع في إشادة نهج الفوضى والذعر بين الفئات المهددة بأمنها واستقرارها النفسي ، فالعالم النمطي هو المبتغى من فكرة القمع المتصاعدة ، خلق حياة راكدة جامدة ، من غايات الذهنية الشمولية ، حيث تفسخ البنى الانتمائية للناس يمثل عامل ديمومة للسلطة وضمانة لرسوخها، حينما تتحول كافة الشرائح المتنفذة إلى قوات محلية تخدم روح العنصرية وضمانة لرسوخها، حينما تتحول كافة الشرائح المتنفذة إلى قوات محلية تخدم روح العنصرية والشوفينية التي تنتجها السلطة ، حيث تمثل تلك الشرائح نواة بائسة تعيد إنتاج ذات السلطة، فكما أن البشرية قد شهدت منذ القدم عهود القتل والنهب والرقيق، فإن الدولة تقوم بذلك عبر نظامها وتمجيدها للقائد السارق بوصفه نبيلاً عظيماً ومفكراً ، فالحرب بهذه الطريقة تتم على المجتمع، وتنصبّ في نقطة زعزعة مواضع الثقة بين الأفراد، لقد زرعت الدولة البعثية أجسامها السامة بين المجتمع، وزرعت مناهجها في عقول الأطفال، وبهذا فإن من ربيوا عبر سنوات على دعاية البعث وفكره المتعالي، لن يكون بوسعهم قيادة ثورة ضدها، ، وإنما يلزمهم أولاً الخلاص من التعالي القومي،وتشرُّب قيم المدنية المعاصرة والتي تلزمهم بخلق أجواء الرفاهية والتعددية العرقية والدينية، وهذا لم يعد متاحاً وممكناً في ظل الفوضى التي بعثرت كل شيء وخلقت بيئة خصبة للإرهابيين والمرتزقة الذين تجمعوا من كل صقع ليبثوا أفكار الإسلام السياسي الواهنة مكان سلطة البعث الحاكم، فقد اكتسبت السلطة البعثية كل مهارات التعذيب في سحق ثورة المعتقل السياسي ومحاولاته في التغيير واستمدت كل تلك الوسائل من هذا النسق التاريخي في قمع النظم السياسية للجماهير والتحكم برباطة جأشها وصبرها، فميل السلطة القمعية لإماتة الحياة في ذائقة الجماهير يعبر عن تصالحها مع التاريخ الوحشي لدرجة بالغة الخطورة، حينما تحيي جانباً متصلاً بالتاريخ القديم في تأليه القائد وتنصيب تماثيل له في الأروقة والساحات العامة ،فالعديد من الصور والأقاويل المكتوبة على الجدران لن تستطيع جعل القائد صرحاً تنويرياً وإنما لطخة سوداء في تاريخ البشرية ، حيث ذلك الاستبداد الذهني الممارس يومياً يجعل الثقة بالمدارك والعقول صعبة إثر الخوف ، إذ لا حاجة أن يفكر الفرد بحضور القائد وبقاءه وكيلاً على الفن والفكر والجمال، فتربية النوازع العدوانية وتغذيتها بأسباب التذمر والنفور يعتبر من عمل السلطات الشمولية حين تبتر ما يتعلق بالتفكير النقدي لصالح التسليم بأصالة وسمو القائد الملهم، لتحيل كل غرس أخضر إلى يباب، فالعنف يلبس الحركة دوماً ويستدعيه بالمقابل عنف مضاد، إذ يتصل العنف بكل شيء وأحد أرقى أشكاله هو القانون الملزم، حيث يتصف القانون بصرامته وبوجوب قوة تفرضه وتدين من خلاله المقصرين والمتجاوزين له ، فالرهبة متداخلة في طبيعة
العلاقة بين الأفراد والمنظومة المديرة للمؤسسات إلى جانب التفكك الروحي للجماهير والتي قادت الجموع نحو الفوضى، فالسلطة الشمولية خلقت في أوساطها مدّاحين ، يكيلون المديح خوفاً من القائد أو تمنياً من أن يسقط تمثاله بين أقدامهم، حيث بدت الحالة الكوردستانية في ظل النظم المحتلة لكوردستان تبعث على الذهول والإحباط، حيث قاد القمع التنظيمات المعارضة للتنازل عن حلم إقامة كيان حر ومستقل إلى مطلب السماح بالتحدث باللغة الأم، أو التخفيف عن عزلة أصحاب الرأي وليس العمل على إخراجهم من أسوار المعتقلات ، كل ذلك نتيجة تحجر تلك السلطة التنظيمية وارتهانها للنظم الإقليمية ، فحيثما يتواجد المغفلون ، يتواجد المستغلون، إذ لا شيء يحبط الإرادة الجمعية والفردية سوى شيئين وهما الفساد والتعنت، حيث نجد بهذا الصدد أن المناهضة الفكرية لسلبيات وسلوكيات الجماهير أفضل من الوقوع في فخ الندية والعراك الانفعالي، في ظل خطورة الجدل نسبة لوجود تقاليد سلطوية أشبه بالنظام القمعي الدولتي، تكبل الأفراد وتعمل على إقصاء مبدعيهم ومبدعاتهم، فلا يمكن مجادلة رجل دين شرق أوسطي أو متحزب شمولي، لا ير أبعد من إيديولوجية حزبه، إنهما يسيران على خط واحد وهو المحافظة على التصوف، حيث أن رجل الدين والحزب الشمولي قضيا حياتيهما في المحافظة على روح الأبوية العائلية، وأسهما بتحوير ذائقة المجتمعات وإخصاءهما عبر التاريخ، وقد استطاعا في كثير من المواقف تحويل الجماهير إلى مصفقين بحكم الخوف أو العادة، وثمة معرفيات ومعرفيين قضوا في كنف الدين والحزب ردحاً من الزمن وخرجا بحقائق وأسس احتجاجية ناجعة كخيار بديل لفهم الحياة خارج مزاريب مفهوم إن لم تكن معي فأنت ضدي أو إنك متآمر مأجور في كل الأحوال، ولا شك أن المعرفي ساعٍ لمعرفة كل شيء الواضح منها والخفي في آن، ولا يحسن خداع نفسه والآخر ، كونه غير انتفاعي ولا يعني أن رجل الدين أو الحزب جاهل، كلاهما في المراتب العليا للقيادة يدركان ما يفعلان وعملهما دؤوب يصب في إطالة عمر التجهيل الممنهج ، فالنص الديني المقدس أجاد في رفع سوية الحالة الروحانية للجماهير التي تعاني من سطوة الخرافة ، فقد أتى التقديس الديني من خلال أنسنة الله وتأليه نائبه "النبي" أو نائب المسيح "البابا" ونائب النبي "الشيخ ، أمير المؤمنين وجاءت الاشتراكية المشيدة، وجموع الأحزاب الشرق أوسطية " الكوردستانية" لتستفيد من التقاليد الدينية في منشأها وتمزجه بخليط الفكر اليساري بشقيه " الماركسي" أو "القومي الاشتراكي" وتمت تصفية وإبعاد العديد من المعرفيات والمعرفيين الساعين للتغيير ، وقد أنشأوا نظام علاقات تعتمد على تربية التصوف والمحسوبية وتقوية الجاسوسية في أوساط أتباعها، وقد وجدوا في وضع الهالة على مؤسس المجموعة إسلوباً يزيد من ارتباط الجماهير التصوفي بها، حيث أن ثالوث تأليه القائد وتهميش الجندي واستغباء القطيع رسم تقاليداً راسخة باتت إرثاً عقائدياً سميكاً كهالة تأثير الدين على النفوس،
إن الأخلاق موجودة بالغريزة داخل الكائن الحي قبل وجود الأديان، والوطن هو الأرضية الخصبة لإنتاج الحياة وارتباط القائد بالشعب والعكس أربك من إيمان الناس بالرقعة الجغرافية وثمة شواهد كثيرة عبر التاريخ ، تبين حقيقة الحروب الأهلية والثورات نتيجة احتكار السلطة للوطنية وجعل القادة أوطاناً والأوطان مسارح تعذيب واعتقال وقتل، حيث لا يناهض المعرفيون التحزبية المؤسساتية ، فهي منظومة عمل وإنتاج ، ولكن دحض المتألهين أعداء التغيير ، يصب في خدمة المجتمع وتماسكه، وهو واجب حضاري، لصون ملكات الفكر والجمال والإبداع وكذلك تطوير أساليب الخطاب بروح تعتمد النقد والمصارحة الفكرية، يمكن فهم الحالة الكوردياتية على أنها في كثير من الأحايين ونتيجة ذلك التعاقد المشترك بين السلطة الحاكمة والتنظيم المناهض، أي التشابه في الأدوات وأساليب الطرح نجدها أكثر ميلاً وذهاباً باتجاه منحى الانصهار الطوعي بالتركياتية والعروبة والتفريس، والانسياق دون وعي للتقولب الشمولي في متاهة عبادة الفرد وهذه من علامات تجهيل وإخصاء الجماهير ، وهذا القول لا يلغي المزايا الحاصلة صدفة داخل تلك المؤسستين الدينية والحزبية الشمولية التي كانت استجابة عفوية لحالات الضياع والعبودية الحاصلة على أشدها وذلك إبان تأسيسها وفق ضرورات المرحلة، كما في حقب بدايات القرن العشرين في قارات العالم القديم ، فنجد أن الفكر القومي الإلغاءي والإسلام السياسي المذهبي قد قوض معالم الحياة الديمقراطية لدى شعوب الشرق الأوسط لهذا وجب التعامل مع القضايا كحقائق وأرقام ومكاشفات وهو الأنجع لكسب ثقة الجماهير بقياداتها وتنظيماتها، حيث أن إحياء خطاب الثمانينات الثوري ومحاولة تجديده أشبه بمحاولة إحياء جثة متعفنة ، فالجماهير المثارة إثر خطاب السلطة القومي أو المذهبي أكثر خطورة على بعضها بعضاً من تلك السلطة نفسها، كون اعتقاد القائد أنه إله أو نبي مرسل هو بعكس مقولة الفيلسوف الانكليزي جون لوك(3) الذي قال " الرئيس أجير لدى الشعب ويحق للجماهير عزله إن تجاوز صلاحياته" فما يفسر سرعة الانقياد خلف الشائعات والتهويل الإعلامي هو ضيق أفق الخطاب الكوردستاني العاطفي والذي يفتقد للموضوعية والواقعية السياسية.
السجن الأكبر الذي أحاط الجماهير على طول رقعة البلد، جعل العيون تتعايش مع مشاهد الرهبة والدموع، في ذلك الواقع أمور تتعلق بطبيعة المجتمع المتأقلم على نمط مجفف للعيش ، وانتظار القادم المجهول الملوح في الأفق، خيبات تتوزع في سحنات الناس،
يمارس الإرهاب الدولي على نحو مقنّن ، ولا يتدخل الرأي العام العالمي بما يحدث من انتهاكات داخل دولة ، تمارس فيه السلطات قمعاً لا محدوداً، فأحوال حقوق الإنسان في خطر، وألوف المعتقلين يعانون، ولا أحد يتحدث عن أحوالهم، فلا من قوة تدين إرهاب الدولة على الأفراد الخارجين عن نظامها والمناهضين لها، فالمصالح ألغت المبادئ وجعلت الأخلاق التعاملية موجودة حسب مجموع المنافع التي تجمع الأنظمة بعضها ببعض عبر تحالفات واتحادات سياسية تمت لعالم المصالح الاقتصادية، فلا أحد يأبه بالإنسان وكرامته، الانتهاكات داخل السجون البعثية السورية كما التركية ، الإيرانية والعراقية ومن على شاكلتها، وما من جهة تأبه لذلك أو تقيم وزناً، ولم يكن رهان التغيير يوماً منصباً حول تحسين هذا الملف، إنما ميزان المصالح يعد الأكثر تداولاً من أي مفصل أو جانب متعلق بالحالة الأخلاقية، حيث تتغير النظم وتنهار الاقتصادات بفعل التناقضات الربحية لا أكثر، فالعنف هو خبز الدولة الشمولية المركزية وأساس لانتعاشها ورسوخها، فداخل كل كائن إنساني أو حيواني وحش رابض في الداخل وعمل السلطة القمعية إخراج الوحش داخل الإنسان وإطلاق العنان له، لينتفض ويقتلع كل أخضر ويابس، حيث يتم تطويع الإرهاب ليكون وسيلة لترسيخ النفوذ المادي عبر ثبات السلطة في مكانها وتفعيل منظومتها الثقافية داخل النخب الإبداعية من كتاب سلطويين وفنانين مرتهنين، يقدمون الولاء مقابل الامتيازات الوقتية التي تمنحها السلطة لهم، حيث تغتصب السلطة مقومات الإبداع، وتسلب الطاقات الواعدة وتحيلها إلى رماد، وتسهم في خلق بذور الغرور والتسلط لدى مثقفي السلطة المنتفعين، ممن تركوا الابتكار وعززوا دافع الاحتكار المادي واللهث وراء ما تلقيه لهم السلطة من بهارج خادعة تتعلق بالشهرة والأضواء، فالسلطات تقدم الفوضى بديلاَ عن نظامها وتهدد به، كي تبقى وكيلة على مصالحها باسم الشعب.
لماذا يلجأ المعرفي للعزلة دون الانغماس والإيغال في صلب الحركة وممارسة مهامه الحثيثة في مناهضة القوالب وسوءات التفكير المتمخضة عن علاقة السلطة القمعية بالمجتمع؟
هنا سؤال يطرح نفسه في سياق بحثنا عن معضلة التوحش المستشرية تحت تأثير ضغط أجهزة الأمن على المجتمع بكامله، كونها أداة تبلع الإنسان داخل المعتقل وتسلبه كل أسباب البقاء، الحياة الأسيرة بيد المنظومة ، تفقد المرء كل دوافع العمل داخل المنظومة أو خارجها ، كون الحراك قاصر ولا يحقق أثراً في لجم الخوف وصنّاعه،إننا امام أزمة ضآلة إنتاج الافكار الجديدة ، حيث طغيان العلة لن تخلق الأفراد ذوي التفكير الجديد، وإنما سينصب عملهم حول متاهة فرضتها تلك السلطة، مثالاً : نجد أن المفكر الشرق أوسطي يخوض ملياً في موضوع تأليه القائد، ويكرر كثيراً خوفه ، معاناته ، من تفاقم مرض القطيع ، ويظل يخوض تلك الدوامة دون إنتاج شيء ذي معنى، هذا يجعلنا ندرك مدى فعالية جهاز السلطة في جعل مناهضيها يسقطون في عزلتهم الفكرية أكثر فأكثر ، كونهم ظلوا أسيري مناهضتهم لشيء لم يتقلص ، إن إمكانية جهاز القمع السلطوي في تجهيل الجماهير أكبر من إمكانية ذلك المفكر ، أو تلك المفكرة الساعية لإنبات زهرة الإبداع في عقول الأطفال.
إن الوقوع في شرك النظري جعل العقل في محنة والإنسان في عزلة وانفصام ، فتلامذة الشيخ ، وأتباع القادة الملهمون يخوضون نشوة الحلم ، ويبتعدون عن حقيقة أن السياسي قد يكذب فكيف يتم تأليهه، والشيخ صاحب الطريقة قد يخون الله في سره ، فكيف يهبه الناس الهبات والأعطيات، لقد نادوا من قبل بموضوع فصل الدين عن السياسة وبقي الإشكال قائماً فلا نعتقد أن سيتم فصل القائد عن الشعب، باعتبار القائد وثن ، والشعب حقيقة إن استماتة قوى السلطةفي السيطرة على الموارد والامتيازات ووضع اليد على مناحي الحياة ، قاد الحياة إلى نمط من الجمود، جعل التصحر الفكري هو القدر الجامع الذي تستظل تحت فيئه فئات المجتمع، والسيطرة يلزمها جهاز رقابي دقيق ، يعتبر كل مناهض عدواً أولاً، هذه حال الشرق الأوسط في ظل سقوط أنظمة ومجيء أخرى، حيث لعبة تبديل الأدوار وإحداث بعض التعديلات لن تسهم في أي تغيير جوهري يفتح المجال أمام اصحاب المواهب والمدركات الحرة ، إنها منطقة غنية من حيث الموارد، وتخضع لسلطة أوروبية أمريكية عن بعد وبوكلاء سذج ، ينشرون التجهيل والتصوف ، لقد حددت المنظومة السياسية البعثية طبيعة المجتمع وأدوار فئاته، ورسمت معالم اغتراب أفراده، من خلال عزلة محكمة بسلاسل الرهبة، وأسلاك الحذر، إن تلك العزلة الاجتماعية ولدت مفاهيماً مضطربة تشربها الأفراد عبر تقاليدهم وعاداتهم ، لنتأمل ما قاله الكاتب الكوردستاني يحيى سلو (4) في كتابه لغة الجبل ص18 : "الفرد الذي لا يستخدم قدراته الذاتية والإبداعية يتحول مع الزمن إلى مجرد أداة تنفيذ، يتم تدريب وتعليم الفرد في مثل تلك الظروف على أن تتقلص دور مشاعره الإنسانية وتحكمه غرائزه التي بدورها تفتقر إلى الأحاسيس والعواطف وقوة العقل والتفكير.
السلطة الاستبدادية أعاقت تلك القدرات الذاتية لدى الإنسان ، حاربت المعرفيات والمعرفيين، بكافة الوسائل الناعمة والقسرية، فتتبع الأفراد وتحري شؤونهم اليومية هو لتذكيرهم بحقيقة سوداء، وهي أنهم في السجن ، سجن كبير اسمه الوطن ، وطن أفراده يمتهنون تكرار ما سوقته السلطة من حياة غير واثقة، ملامح الذات المنكسرة ما هي إلا عبارة عن تفاصيل غامضة تبوح بها علامات الوجه ، تفتيت الفرد عبر مراقبة حركاته، وتتبعه بشكل دائم عرقل المناخات الإيجابية فيما بينه والناس، في ظل الكابوس الكبير الذي عم تلك الرقعة السياسية الناشئة إثر اتفاقية استعمارية اسمها(5) سايكس بيكو
. باتت النظم فيها طائفية محكومة بالفشل والإخفاق، تتربص أجهزة أمنها بالنفوس والعقول لتقودهم إلى مستقبل مظلم
تعتبر مجاورة الموت تعبيراً رمزياً لطلب السكينة والراحة ، والتحرر من القلق بوصفه عاملاً يشل حركة النفس، يلزمها على الركود والتقوقع في دوامة ساكنة ،في ظل هرع أصحاب النفوذ والامتيازات السلطوية نحو المنافع والمزيد من المكاسب ، يجدر تنامي القبضة الأمنية وسلوكها المباشر في التحري والمراقبة، لاسيما وأن الإبداع يسعى للبروز عبر الحب، وغاية الفرد من التحرك في بوتقة الوطن المعتقل، هو لأجل إنقاذ الحب من مخالب الخوف، ما السعي إلى الفرار إلا نتيجة عن إفلاس المجتمع روحياً بعد عزله، وتصاعد إنطفاء شعلة الانتماء للأرض فيه لصالح الرغبة المحتدة في عيش الإغتراب الخارجي
إن عداء رجال السلطة مع المستنيرين تاريخي وقائم بذاته كحقيقة واضحة غير قابلة للبس ، وإن تطوير الإقصاء والقمع من عملها الكابح للإبداع والابتكار، فأحد غاياتها هو القمع الوحشي وتثبيت الخوف كنظام حياتي، هنا أمكن فهم نضالات المعرفيين على أنها البديل الحضاري والوقائي القائم إلى جانب بطش الإرهاب الدولتي أو الحزبياتي ، وإقامتهما سلطتين كبرى وصغرى، تعملان بالتنسيق فيما بينهما للحد من تطلعات الفرد للإرتقاء، فالاستمرارية في سلوك نهج التمرد والمقاومة ، لقيه في كثير من الأحيان ردود قبيحة من نظام السلطة الصغرى، "الحزب المناهض" لغايات تتعلق بالتمايز السلطوي والرغبة بالبروز الانتفاعي الأناني ، لو على حساب المبادئ والمصالح الشعبية ، إن لذلك تأثيراً بالغاً على كفاح المعرفيين لتحقيق التطلعات الجماهيرية في الحرية والاستقلال، هكذا نجد أن الحسابات السلطوية لا تتوافق بتاتاً مع الغايات المثالية بل وتتعارض على نحو فج ومباشر، فتحالف السلطتين الكبرى والصغرى فيما بينهما كان لكبح أداء المعرفيين ودورهم في تنبيه الغافلين، لهذا نشهد ذلك التحالف المقيت بين الأنظمة القامعة المحتلة لكوردستان وتنظيمات كوردستانية سلطوية تكبح من جماح النخبة الشابة الواعية ممن ترفض الارتهان والمساومة على دماءالذين سقطوا لأجل كوردستان، لم نذكر تلك التنظيمات إسمياً وإنما أردنا فهم فداحة الاختراق السلطوي البغيض لتنظيمات اصطفت وراءها جماهير غفيرة متعطشة للحرية والاستقلال، رغم افتقارها لروح التنظيم المعرفي ، تدين بارتباطاتها الروحية والغوغائية بزعامات متألهة مثلت الآغوية المعاصرة.
إن الضغط السلطوي يرمي بثقله لميادين وصعد الحياة كافة، يخلف جيلاً مكبلاً بخوف ممنهج تربوياً ، وقادر على ان يلتف حول مطالبات المعرفيات والمعرفيين ، دعاة التغيير لإحداث قفزة نوعية في مسار العملية السياسية، جيل الزنازين لم يفلح في الخروج من بوتقة الإنكسار التي أحدثها السجن والاعتقال ، لهذا بقيت مسارات التغيير محدودة محصورة في الأفق، الجماهير دخلت ألعوبة هذه السلطة ومارست دوراً خائباً في السير بخضوع لألاعيب السلطة عبر اختراقها للتنظيمات المناهضة وجعل الجماهير تتفتت عبر عقليتها الانشقاقية، وكرها للخلاص وإن دعت إليه نظرياً، تبين للقاصي والداني أن عداء المنظومة السلطوية القائمة مع قوى التغيير متفاقم ويتصاعد ويتعمق عبر الأجنحة السلطوية المشتقة عن النظام الدولتي الحاكم ، بمباركة استخباراتها ، إنها وراء صنع تنظيمات منبثقة عنها عبر التقاليد وتشابه النظرة ، وعقلية التسلط والتعنت الإيديولوجي، أما عن كيفية الخروج من تأثير خطابات السلطة الشمولية وطبيعة تحركاتها ضد نهضة
. المجتمع ، فهذا رهين الوقت والتغيرات الإقليميةالمتصلة برغبات ومصالح الدول الكبرى والفاعلة
تقول الدكتورة البريطانية(6) جين روجرز :“ إن البشر يشتركون في 99% من جيناتهم مع الفئران ، بل إن البشر لديهم الجينات التي يمكن أن تؤدي إلى نمو ذيل" استخدام محققي الأمن ورجالهم نعوتاً قميئة ، تشير إلى خروج الإنسان عن جادة الرقي والتحضر، حيث تعبر الشتائم عن حالة من انفعال وتوجس تقيم في النفس مما يدفعها لتبرير الكراهية والنقمة عبر ألفاظ نابية تجسد العنف اللفظي ، حيث يرَى(7) جورج باتريك " إن استخدام الشتائم هو صورة بدائية من الكلام البشري ،
حيث يعبر السباب هنا عن الغضب والنقمة ، والاعتياد على ممارسة العنف وحده، التصارع بين جهاز الأمن والمعتقل السياسي وغير السياسي، حيث يتجسد كم العنف والخروج عن الحالة الإنسانية، إلى الاستشراس الحيواني ، وخروج الإنسان عن المنطق ، عبر إطلاق العنان لشحناته من خلال اللاشعور ،لتعبر عن حالة التوحش تلك ، حيث تسود القوة الباطشة مقابل أصوات خافتة لم تملك قوة مضادة ، نتيجة إحكام سلطة البعث على كافة مفاصل الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، لن نتفاجأ ببروز معارضة هشة ، ضيقة الأفق ، تتشابه مع السلطة المناهضة في كثير من النقاط الجوهرية ، ورسوخ العنف كمذهب استعدائي ، يقوض طموحات الناس
ويرسخ التفتت والتشرذم ، والضياع بين السلطتين المناهضة والقائمة ، ويتبين ما يلي:
حجم الصراع السياسي وضراوته، واستماتة السلطة في قمع المعرفيات والمعرفيين لما لهم من خطورة على المنظومة في صميمها حرب سلطة البعث لكل المدركين بضرورة إسقاطها واتخاذهم تدابيراً قاسية في قمع كل حراك، نجد أن الاعتقال السياسي يعتبر عملاً مثار اهتمام بالغ للسلطة القمعية وإن اهتمامهم بملفها أكبر مقارنة مع الجرائم والجنح الأخرى.
كذلك نشهد تواطئ رجل القانون مع رجل السلطة في القمع عبر أجهزتها التي تتعامل مع المعتقلين بمزاجية مفرطة، ففي كثير من الأحيان ، فإنها تطلق سراح المعتقل ، حينما يقوم ذويه بدفع المال مقابل خروجه وقد كشفت المذبحة السورية ، "الثورة " ذلك الخلل البنيوي في طبيعة خطاب المعارضة وتشددها الديني وخضوعها للأجندات الإقليمية، كما فعلت سلطة البعث، التي راحت تفعل كل شيء وتفتك بكل شيء لأجل بقاءها.
تصاعد الجرأة الشعبية في الحراك وتسلط القوى الاقليمية والدولية لتحريك هذا الطوفان الجماهيري بما يتناسب ومصالحها الاستراتيجية، في تلك المنطقة المحتقنة سياسياً والبعيدة عن حالة التعايش والتجانس، والتي عاثت السلطة البعثية فيها فساداً من خلال تأصيلها للشوفينية القومية في نفوس الجماهير ، وهكذا نجد أن المنطقة المستعرة تنقل أزماتها خارج،الحدود مع دول تتشابه معها في عقليتها وكرهها للديمقراطية
عداء رجل الأمن للمعرفة متأتية من سذاجته وكرهه للفنانين والمبدعين المشاهير ، وهو مرموز يشير أصلاً إلى احتقار سلطة البعث حالها كأي سلطة مخابراتية لكل الذين يشكلون مصدر قلقها وهم أصحاب القلم ممن يمتلكون القدرة على التحريض ومعاينة الأورام الثقيلة المستوطنة روح الناس المتعبة، مع تغول السلطة يصبح تماسكها أضعف وضبطها لتجاوزات الأفرع الأمنية أقل، فيصبح البطش وليس سواه غاية في حد ذاتها ، حيث لا معاينة ولا تمحيص في ماهية من يتم اعتقاله، وإنما تمسي القضية تخويف الناس وترهيبها، فحينما يتصرف المحقق بمزاجية بحتة وسلوكيات مضطربة تنم عن جهله وسذاجته، عندها يمكن القول أن الإنسان في خطر فعلي والقانون قد مات، هذا بدوره ينعكس على نفسية المجتمع وإحباط أفراده، عدم قدرتهم على تجاوز فوبيا الخوف الذي يتضخم باستمرار ، فولاء رجال الأمن والجيش هو لنظام العائلة وطائفتها ، وما البعث سوى عباءة ومنبع وأسلوب عمل يتم عبره الحكم والتصرف كراعٍ أوحد تحت يافطة حماية مكتسبات الثورة والدفاع عن الاشتراكية ، وماشابهها من شعارات، لهذا نشهد مظالماً لا تطاق بحق الناس، وتفنناً في تعذيب المعتقلين وإمعاناً جلياً في خلق تنظيمات وميليشيات لها ذات التوجه وإن لم يكن ذات التوجه فلها ذات العقلية والأسلوب في التعاطي مع الجماهير، حيث احتكار الوطنية لصالح حكم العائلة أو الطائفة يمثل رأس حربة بمواجهة الديمقراطية والتعددية، فاحتكار القيم والموارد يقود أوتوماتيكياً لبناء نظام الاستبداد، وما يحدث في سوريا هو تحول كل حزب عسكري الطابع إلى خلق نظام مشابه لنظام السلطة القائمة، إلى جانب تربية الجماهير على مذهب الخضوع والولاء للحزب والتوجه الإيديولوجي على حساب الانتماء للوطن والتفكير بنهضته وبناءه ، إن مرحلة الثورات المسماة بالربيع العربي هو حصاد لما زرعته السلطة الإستبدادية من عبوات وألغام موقوتة ، تنفجر على التوالي، ولن يتغير هذا الحال إلا عبر التدرج البطيء وبالتزامن مع عملية رفع الطوق أو العزلة التاريخية عن تلك الجماهير المغيبة عبر الإكثار من بناء المحافل والمؤسسات الثقافية المربية للعقل وتنميته، وهذا بالضرورة سيتيح المجال لإرساء النقد ويفتح الطريق لمناقشة التابوهات والتقليل من سطوة رجال الدين والحزب الشمولي ، الأمر الذي سيتيح المجال لقيام الثورة المعرفية.
التعذيب الجسدي والنفسي للمعتقل ، يستخدم بوصفه رادعاً يحول دون تحقيق الفرد لأهداف مناهضة للسلطة ، ويستخدم كوسيلة للدفاع عن النظام السلطوي إزاء فئة تدحضه وتحاول هدمه مراراً ، وهو عمل رئيس للدولة البعثية الطائفية في أنها تولي أهمية للتعذيب والتفنن به كوسيلة تردع الفرد وتجعله خائفاً بعيداً عن أفكار التغيير والعمل لقلب النظام القائم، بما لاشك فيه أن أصحاب العقائد الدينية والوضعية يستخدمون التعذيب كوسيلة للمحافظة على السلطة والعقيدة والبقاء ، فالإكراه والقسر شائعين في مذهب السلطة ، ولكي يتحقق الرسوخ للنظام ، يجدر أن تحارب المختلفين والمخالفين لها، وقد استخدم التعذيب لمزعم البحث عن الحقيقة ومعرفة المذنب قديماً، في اليونان وفي عهد الإسلام وما قبله ، وكذلك في العصور الوسطى واستخدامه كوسيلة لحماية الكنيسة الكاثوليكية ، حيث في الستينيات من القرن المنصرم قام العالم النفسي „ستانلي ملغرام“ بإجراء اختبار في جامعة „يايل“ لفهم ظاهرة التنفيذ الحرفي لعمليات الهولوكوست والتي قام بها الجنود النازيين في الحرب العالمية الثانية ، وقام عالم النفس الأمريكي فيليب زمباردو ، بإجراء اختبار في سجن ستانفورد ، حيث خَلُصَ زمباردو إلى نتيجة مفادها أن الأشخاص المقدمين على التعذيب معرضون للخضوع للتعليمات كونهم مسلّمون لنظام إيديولوجي يحظى بمكانة اجتماعية ومؤسساتية ، والإنسان بطبيعته ميال للتأقلم غريزياً ضمن المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، فهدف نظام البعث القمعي هو الحد من المبدعين والمفكرين، واستسلامهم فوراً إثر التعذيب والمهانة التي يتعرضون لها، ، فقد طغى الإرهاب الدولتي على كل إرهاب آخر مضاد، وبات يتصدر مشهد التاريخ بفظاعة ، فلكي تنقذ السلطة نفسها من السقوط ، فإنها تستخدم البطش لأقصى حدوده، تتقاسم صناعة الإرهاب تلك الدول والأحزاب والجماعات الصغيرة ، والجمعيات السرية ، المافيا، العائلة ، كل في حقله ، ، حيث يبدأ الإرهاب من فكرة في الذات سرعان ما تتبلور ، لتصبح مبدأ أو قانوناً، إذ لطالما بدأت المنظومة في تأسيس وجودها انطلاقاً من مساعٍ فردية غير منتظمة لتصبح مع الوقت نظاماً حديث النشأة، إنه الفرار من الموت والتلاشي أو الاختفاء القسري كما جرى للعديد من المعتقلين الذين تم تغييبهم ، وبذلك فإن السيطرة الأمنية التي تفرضها سلطة البعث تعمد إلى بث الخوف وجعله يتحكم بالأفراد، كيلا ينهضوا وإن نهضوا فإنهم سيخرجون من هذا النهوض مكبلي الأقدام بسلاسل غليظة وثقيلة ، حيث نعني بالسلاسل ، تلك العوائق والعثرات التي تجعل من أي حراك مضاد ومناهض مخصياً ، بليداً محكوماً بالفشل وعدم الاستمرار، عبر زرع السلطة لأدواتها وأفكارها ومناهجها، هكذا لا يمكن الصحوة من هالة الغشاوة السميكة التي أحاطت العقل المعتقل وزجته في صدامات نفسية لا تكاد تتوقف، ، فالإرهاب الدولي المفروض على الجماهير ، برمجة الفرد على الخوف معناه أن يترسخ لديه الخضوع على نحو آلي ولا ينظر للأعلى، بل يجب أن ينشغل أبداً بلملمة نفسه وبقاياه بصورة نمطية ومتكررة ، حيث تغذية الفرد على الخوف والألم يولد لديه دوماً رغبتين متناقضتين ، إما الانتقام لحد أن ينقلب الضحية لوحش، يعيث الفساد في كل شيء ولا يتوانى عن نهش كل صالح وطالح ، ليكون نموذجاً عن الوحش الحديث الوليد من رحم الاستبداد، والرغبة الأخرى هو الميل للزهدية والعيش في دوامة من الاغتراب والشعور بالظلم لمدى طويل وهنا يختار هذا الفرد مازوشية حمقاء تحيطه وتكوي أعماقه على مراحل ، يسهم الخوف في إنشاء الفرد حسب مقاس السلطة ورغباتها في امتصاص الجرأة في ذوات الجماهير ، فاستفادة السلطة البعثية من وجود تابوهين عقيمين وهما الأصولية القومية المرتبطة بأصولية الإسلام السياسي، في ذهن ولاشعور الجماهير ، جعل النظام القمعي سهل الجلوس والبقاء طويلاً ، كون بديله يعني الفوضى والتشرذم والانقسام الطائفي والصراع العرقي لا محال ، هكذا تعبث الأنظمة الشمولية في مستقبل شعوبها ، بعد تشربها لإفلاسها ، مما يجعل الغموض شبحاً يخيم على كافة مناحي الحياة ، والتصدي لهذا الخوف والقمع المتصاعد غير جدير بالوقوف عنده ، لضمور آليات المواجهة وكساد فكر دعاتها ومنظريها، وقد اصطف السلطويون خلف المقدسات عبر التاريخ وقاموا بتحقيرها، بمنهجية قادت الناس إلى المجهول ، جعلت الألسنة تكرر ما تريده السلطة البعثية ، وحدث أن تم إخصاء الدين وتطويعه قومياً وحسب رغبات الحكم الفئوي ذي النزعة الطائفية.
تم إعدام المعرفي الشاعر الإسباني لوركا (9) في بدايات الحرب الأهلية الاسبانية عام 1936 ، وأيضاً بيكاسو (10) الذي جسد هول الحرب وكانت لوحاته معبرة عن مقاومة المعرفيين للسلطات الترهيبية، فيقول(11) ديفيد هيوم : "الزمن وحده هو الذي يمنح الاستقرار لحق الحكام ، ومن خلال تكييفه التدريجي لأذهان البشر يصالحهم مع أي سلطة ، بعد أن " يجعلها تبدو عادلة ومعقولة.
إلا أن ديونسيوس يرى أن القوة السياسية مؤسسة على ذاكرة متلاشية والنسيان هو العقار المقوي الذي يسمح للحضارات بأن تعمل بنحو فعال ، كل ذلك يجعلنا نؤمن بأن إرادة الجماهير الواعية والمصحوبة بإرادات الأفراد المبدعين والناشطين، يسهم في تلاشي الفجائع مع الزمن ويفتح الطريق للأجيال المستنيرة أن تبدل المآسي والفظائع مع الوقت، وما الحرية سوى وحش أخرجته السلطة القامعة من نفوس معتقليها وجماهيرها الغاضية ، حيث تنطوي النفس الغاضبة على حرية وحشية تقتحم المسكوت عنه وتنفث من أحشاءها نيراناً حمراء تحرق كل شيء حيث يقول هيجل في كتاب "فنومينولوجيا الروح" إن غياب الاختلاف مرتبط مع قوة الموت المدمرة ، أو بما يدعوه إرهاب الموت "
تود السلطة البعثية إيجاد الفرد المنطوي ، العصبي النرجسي الغارق في عيشه مع نفسه ومعاناته داخل المعتقل، تريد فرداً يائساً محبطاً بعيداً عن السياسة وقد نجحت سلطة الأسد الأب والإبن في خلق هذا الأنموذج بالتقادم والتدرج، وقد استطاعت سلطة البعث السوري كما العراقي الامتطاء على البشر على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم ، ونجحت في تفتيت المجتمع وتأليب بعضه على بعض ، فكان ما يسمى بالوطن معتقلاً كبيراً يتزاحمه الخوف إلا أن غاص في مستنقع الفوضى اللامنتهية والذي عرف بالربيع الدموي ، التوحش الذي تعتني به السلطة الفئوية داخل معتقلاتها ظاهرة ليست بجديدة تاريخياً ، لكن يتم تطويرها مع الزمن عبر ابتداع أساليب التعذيب لحصد ردة الفعل ضمن إطار ممنهج يخدم السلطة نفسها لمواجهة خصومها الألداء، حيث إطلاق سراح الإسلاميين من السجون والمعتقلات ، أجهز على تلك الهبة الشعبية من بداياتها ، عبر شعار الله أكبر وانطلاقة الجموع المنتفضة من المساجد في كل جمعة ، لم يكن ذلك مصادفة وإنما خطة تم الإعداد لها بغية وأد الحراك وإخصاءه،فأمثلة العنف تم استجلابها من الكتب المقدسة التي تصف الحوادث المتعلقة بمراحل نشوء الدين وترسيخه سياسياً، والظروف التي دعت لتبلور ذلك حياتياً ، حيث عقل الفرد معبأ بمواد الانفجار على الصعيد الأسري والتعليمي، وكذلك عبر اختلاطه بالآخرين ، من الطبيعي أن تنتهز السلطة السياسية ذلك وتستعمل العنف عبر إدخاله في المنهاج التربوي التعليمي الذي تلقفه الطلبة منذ ذهابهم للمدرسة وانخراطهم في التربية والتعليم ، لقد حمى النظام البعثي نفسه حيث أخرج الإسلاميين من المعتقلات ليتم بواسطتهم تدمير الثورة وإزاحة ذوي الكفاءات القادرين على تحريك الشارع والرأي العام ، واستفاد بشكل أو بآخر من صعود الإسلام السياسي في تركيا والذي سخر هذا الأخير الإسلاميين لبلوغ غاياته في الدخول للملف السوري واستخدام الجماعات الإسلامية كوسيلة للهيمنة وكذلك فعلت إيران عبر تجنيدها للجماعات الشيعية وهكذا بدا التوحش عباءة إسلامية طائفية مشبعة بأسباب الحقد والكراهية فبسم إسقاط النظام جرى إسقاط الشعوب وقصف منازلها وقطع رؤوس الناس تحت مسميات وذرائع عديدة ، لهذا باتت الأصولية الإسلامية بمثابة الوحش المعاصر الذي يبقي على الاستبداد لأمد أطول ، لقد تم تغذيته بأصول القتل التاريخية ، وتطعيمه بالكثير من الأساليب الحديثة للإرهاب، لأن ذلك يسهم في الإبقاء على الهيمنة الأحادية على العالم ، وكذلك التدخل بمصائر الدول من خلال يافطة مكافحة الإرهاب الإسلامي ، حيث يتعارض الإرهاب مع الأخلاق والقانون ، يتعارض مع الحرية والديمقراطية وينتصر للفساد لكونه من مفرزات التفتيت الروحي للمجتمع، فالمفردات النابية والقاسية المحاصرة للمعتقل السياسي، تتعارض مع القيم والوجدان الإنساني وتخلق مآس فردية تظل آثارها زمناً داخل الإنسان ، هذا التدمير المعنوي لابد وأن يقود عبر مراحل لفقدان الحرية والكرامة ، فقد تم الإطاحة بالله تحت بند نشر شريعة الإسلام بالقوة ، وتم الإطاحة بالقانون عبر الدعوة لإسقاط النظام السياسي، إذ لا تتلخص الثورة بردة الفعل إزاء ممارسات سلطة معينة ، وإنما هي مجموع إرادات وأفكار تسعى للولوج داخل المجتمع المقموع لتكون نواة للتغيير وليس مجرد تصفيات حساب سلطوية بين طرف يسعى للهيمنة على السلطة وهدفة إسقاطها، واستبدالها بسلطة لا تختلف عنها، إن تلخيص الثورة بتبديل هرم السلطة بآخر هو تحوير فظيع للحقيقة الاجتماعية ومحاولة خبيثة للقفز على أحلام الناس في العدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطي ، هذه الإستماتة في الوصول للسلطة دون التغيير في بنيتها ، جعل الفساد الاجتماعي ينمو ويزداد بإطراد على حساب مكافحة النخبة الواعية الباحثة عن سبيل للتغيير الجوهري وإيجاد مشاريع تنموية قادرة على تبديل الواقع القائم بخلق واقع أفضل، بيد أن الخراب الذي عمّ كل مكان ,والتراجع الاقتصادي ودمار البنية التحتية حال دون بلوغ الهدف المبتغى.
أهداف الاعتقال السياسي هو لأجل لجم العقل عن التفكير ، ذلك سيتيح للسلطة الفئوية البقاء أطول أمد في الحكم ، محولة المجتمع إلى قسمين مؤيد ومعارض لها، وكلاهما وقود تدفأ بهما السلطة نفسها وقت الحاجة، فالديكتاتورية تنشأ مجتمعاً على شاكلتها ليكون مضاداً للفئة المقابلة منها، إن من أكثر الأخطار صعوبة في ردعها هو أن يتحول الإستبداد لعقيدة مجتمعية، فباسم حماية الوطن من المؤامرات الخارجية يصطف المجتمع المؤيد بقوة وراء خطاب السلطة الشمولية، ضد الفئة المناهضة والرازحة تحت خيمة الهجرة والنزوح ، هذا التفتيت من شأنه أن يقوض أي جهود فردية لمناهضة النظام السياسي، حيث يعتبر الصراع الإجتماعي بين الفئات والشرائح لأجل مصالحها وبقاءها من الأسباب غير المباشرة لتغول السلطة واستمرارها في الإقصاء وحربها ضد الديمقراطية، حيث نفهم ذلك النهج السياسي بكونه استماتة في احتكار الاقتصاد وتمجيد الفساد كمعبود تاريخي ،ولا ريب أن الديكتاتورية تبرر لنفسها البقاء على ما هي عليه من خلال عدة مسميات وعقائد برّاقة، حالها كحال الشجرة الخضراء غير المثمرة ((15)ديكتاتورية البروليتاريا)( البعث الاشتراكي ).
القمع الإيديولوجي ثوب برّاق كثوب الراقصات ، وهو ما تستسيغه السلطة البعثية في دغدغة الجماهير وتنويمها ولاشك أن البعث خلّف جراء تحذو حذوها وتعمل على تفخيخ الجماهير من خلال الشعارات و تمتهن اللعب على الحبال أكثر من القردة نفسها، ثنائية السادية والمازوشية متلازمة السلطة البعثية والمجتمع البائس، فالعنف الثوري سرعان ما يتحول لعنف سلطوي، ويصبح وسيلة تدمير للمجتمع، وتقويض لمدركات ومواهب الفرد في سعيه لحياة أفضل، ونظام يحرص على تحقيق الرفاهية والنهوض بالمجتمع وتنمية موارده، فما دام ثمة أناس يموتون من أجل الفرد المبجل ، فذلك يعني بقاء الإرهاب الدولي كنظام قمعي حقيقة ماثلة، فالإرهاب مرتبط بأولئك الذين جعلوا من أنفسهم قرابيناً للفرد، وجعلوا من أجسادهم ترساً لحماية النظام الذكوري البطرياركي، وقد حقق هذا النظام أهدافه الباطنية،بخلق مجتمع سلطوي منقسم على نفسه ويعاني من انفصام مبرر بأفكار تنشد للمثالية المجردة عن الواقع، فأحلام الدعوة للوحدة العربية جعلت المجتمعات تعتقد لأمد أن البعث هو الأساس للنهوض بالمجتمع العربي ، كما اعتقد البعض ذات حقبة أن الشيوعية هي الخلاص ، أو النازية هي السبيل لعرق صافٍ وقوي، فتكوين الجنون الجماعي تأصيل للإرهاب عبر التاريخ والقوى
الاستبدادية سلاسل كربونية لا تحيد عن غاية وحيدة وهي قطع صلات الفرد بواقعه وجعله إنساناً مجرداً من ذاته
طبيعة النظام القائمة تقود إلى النزاعات الأهلية، ومدى تقارب ذهنية هذه الأنظمة ومعارضاتها ، يضع الكوردستانيين في تحدي مواجهة هذه السلطات، والحرب التي يشنها المعرفيون حرب نظيفة،وقد نجحت النظم المستبدة في تعطيل التربية إلى حد كبير فما نراه اليوم في سوريا والعراق وأرجاء الشرق الأوسط من جماعات أصولية مناهضة للنظام وأخرى موالية واقتتالها الوحشي فيما بينها ، نفهم ملياً ممارسات السلطة في تدمير العملية التربوية ونسفها من جذورها مقابل بروز العنف الضاري،لقد تم تربية الأطفال ليصبحوا أشبالاً لصدام حسين في العراق ، وأشبالاً للأسد في سوريا، وكذلك أشبالاً لأسد السنة أردوغان، إنهم في الواقع قرابين لبقاء الظلم ، وبقاء المتحكمين بالبشر والعقول، وقد سقطت الأوطان تباعاً وبقي الاستبداد يُكثر من العبيد والأرقاء ، وبات
معملاً لإنتاج الدمار وغسل الأدمغة وضخ الفساد،لقد نشطت مؤسسات الإسلام السياسي على إنتاج طفولة بائسة مكبلة بالفوضى والكراهية، كامتداد للمؤسسات القومية الأتاتوركية والبعثية في إخصاء العقول وتدمير الملكات الإبداعية عبر بث القهر والاستكانة والخضوع ، والنتيجة حروب أهلية لا تتوقف وصفقات رابحة لبيع لأسلحة ، وإرهاب عابر للقارات لا يسلم منه أحد،
يسبر المعرفيون في بقاع الشرق الأوسط الأغوار في صناعة الثورة المعرفية المقترنة بالفكر والحضارة والأصالة، دعامتهم في ذلك تعاطف الشعوب وفهمها لمدركات أفرادها المبدعين غير القابلين للصهر أو الإبادة ، إذ كلما تقادم الزمن كلما تضاعفت المهمة الملقاة على عواتف أصحاب الملكات في أن يكونوا مشاعل خلاص لمجتمعاتهم ضد قوى الفاشية العاملة على قتل تلك الروح حيث صراع قوى المعرفة والتنوير ضد قوى التجهيل والكراهية يتجسد في الحرب التركية ضد محاولات الانعتاق الكوردستانية أيما تجسيد، وما تضامن الشعوب كأفراد دون تلك الحكومات إلا دليلاً على حيوية العقل والوجدان الإنساني في إصراره على صناعة القرار المجتمعيإن التفاف الناس حول بعضها بعضاً عبر رابطة الحب الروحية والإدراك العقلي المتصل حتماً بتلك الروح المدركة أحد المهام الجلية التي
. ينفذ بها المبدع والمبدعة لكوامن الأشياء
أجاد الكاتب عرض الملامح النفسية للشخوص عبر توظيفه لعبارة تشير للشحوب والعبوس وفتور القوى إلى جانب انهمار الدموع على التجاعيد وكذلك الحوارات المتقطعة التي تحتفي بالمواقف المؤثرة، حيث مشهد انتظار آلان المعتقل ، وكذلك تردد المخابرات لمنزل سليمو كل ذلك يعكس التعابير الداخلية للشخوص مما يساعد على تفعيل الإحساس وتعريف المتلقي لطبيعة المرحلة وذود الأفراد عن بعضهم رغم حالات الإرهاب المرهصة لنشاطهم وحراكهم الخائف، حتى الكلاب لا تسلم من الأذى إن اقتربت من تمثال القائد، حيث رصد الكاتب تعامل حارس التمثال مع الكلب الذي تبول أسفل تمثال الرئيس ليعكس استماتة السلطة في كتم كل حراك أو شيء ملتبس يقترب منها ، وتكبيل الفكر عبر لجمه، حيث يشكل الاستبداد الفكري أحد أعمدة النظام الشمولي، للحد من تدفق الفكر الحر والمناهض، وكي يغرق المجتمع في سبات المقدس التاريخي، تحسباً لنهوضه ، فحينما يثب منتفضاً، سيعود ليسقط أرضاً لكون قدماه مكبلاتان بإرث الإسلام السياسي المشبع بالتطرف والتسلط، لهذا لن تجد سلطة البعث عائقاً في سحقه عسكرياً ، لكن حتماً ستعتني السلطة السياسية تلك بهذه الجنازير المقدسة والمحبطة لكل حركة تقف ضدها، فبمجرد أن يتم إطلاق المعتقلين الإسلاميين خارج السجون ، حتى يتمنى المجتمع عودة السلطة العلمانية رغم فسادها واستبدادها، كون الجماهير تتيقن مدى خطورة أي حراك مخصي مسبقاً، إنه توحش اتفق العالم المتمدن على الاعتناء به، بدليل رفضهم لإجراء محاكمة دولية لمعتقلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ، مما نجد رغبة مبطنة في إعادة استخدامهم كورقة ضغط اقليمية لتحقيق أجندات غير معلنة عبرهم،فالوحشية بارزة في انسحاب الأمريكيين المفاجئ من غربي كوردستان وشمال سوريا ، وكذلك عبر تواطئ الروس ، والأمريكان مع تركيا في عدوانها على الكورد، ومحاولة اقتلاعهم من جذورهم واستبدالهم باللاجئين السوريين المرتبطين بها ، حيث يمثل التغيير الديمغرافي بمثابة تطهير عرقي، ناهيك عن السلب والنهب الذي تم من قبل الجماعات الإسلاموية الوليدة عن داعش في عفرين وآخرها سري كانيه (رأس العين) (17) وكري سبي (تل أبيض) (18)، حديث الثورات لدك حصون الاستبداد يتم وراء الكواليس في بلاد ساكنة يقشعر بدنها من مرور الأشخاص المتشابهين في الملامح ، وهي معطيات عن تأهب حقيقي ينتظر إشارة الوقت المناسب للبروز بقوة بغية إزاحة القتام عن المشهد المعتم هذه الأحاديث تمثل مقدمة لبروز حالات العصيان والتأهب فيما بعد، فالتفكير منصب على كيفية التخلص من هذه القيود ، وهي عوائق تحول دون بلوغ الأمن والطمأنينة ، حيث الحرب القادمة المغيرة لمعادلات الخوف والنكوص، وكذلك التغيير بوجهيه السلبي والإيجابي قادم لاقتلاع هذا الورم السلطوي الناشب مخالبه في كل مكان، حيث الضغط الاقتصادي والفقر المدقع قاد إلى جهل وتوحش أميل للانتقام والفوضى منها إلى التفكير والتدبر ، فالمجتمعات الشرق أوسطية مجتمعات قبلية التفكير بغالبها تميل إلى التوحش والانتقام والجهل أكثر منها إلى التحضر والقانون والوعي، لهذا فلا ينجم عنها إلا ميل عشوائي لاستبدال الأشخاص القائمين على السلطة بأشخاص آخرين يختارونهم ليلبوا ما بداخلهم من غلٍ طائفي أو عرقي ، أو إيديولوجي ، حيث يعتبر المجتمع التركي مجتمعاً مثالاً للعنف فالسلطة التي تحظى بدعم جماهيرها ينبغي أن تكون فاشية قومية عنصرية تنادي بالتعالي التركي ومحاربة الكورد عملاء الداخل وتصفيتهم، خطاب الكراهية يحظى بإجماع الغالبية ، والحاكم الباقي في السلطة هو الذي يلبي الدوافع العنفية لتلك الجماهير، وبالتأكيد فالمجتمعات العربية والفارسية لديها ثقافة السلطة وتؤمن بنظرية المستبد العادل، فتتقاسم كراهية بشار الأسد وهي في الآن ذاته مولعة بصدام حسين، وتتمترس بالإسلام السياسي وترى في أبو بكر البغدادي شهيداً ، وفي أمريكا وإسرائيل عدواً، وفي أردوغان خليفة للمسلمين، إن ثقافة السلطة متجذرة في هذه الشعوب ونجم العلمانية والديمقراطية يكاد يخبو في ظل هذه المعمعة من الفوضى وتقديس العنف والكراهية.
لهذا نرى هذه المجتمعات أبعد ما تكون عن الديمقراطية وخلق مشاريع تعايشية ، بسبب هذا العبء الثقيل الذي تحمله والذي يثقل كاهلها ويمنعها من التفكير بالمستقبل، لهذا فإن الثورة المضادة هي الحل الوقائي لنسف فكر السلطة داخل الجماهير أولاً، والدعوة لعقد تجمع كبير تديره المؤسسات المدنية المستقلة بدعم دولي أممي، للوقوف على هذه الأزمات وتطوير برامج تربوية للوقوف على إشكالية التطرف الديني والقومي وإرساء فكر التسامح والمحبة بين الشعوب من بوابة قبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات ، أي دمقرطة الفكر وتعبئته بأسباب العيش المشترك.
تفشي الوحشية داخل تلك المجتمعات وتحول أفرادها لمجموعات إسلاموية أو مضادة لها، تقتتل بضراوة بدلاً من أن تصوب بندقيتها ضد تلك السلطة، ليحدثنا هنا عن العنف والعنف المضاد، الذي خلق فوضى أهلية دمرت الكثير من المكتسبات والبنى التحتية وأفسدت قيم التعايش وإمكانية التعاون والتلاحم الطبيعي، حيث ارتهان القوى السورية للخارج بسلطتها ومعارضتها ، جعلت البلد ساحة لتصفية الحسابات المختلفة، وخلق جيلاً أمياً يفتح عينيه على الحرب والتنازع دون حلول تلوح في الأفق،حيث حمل مشروع الإسلام السياسي للمعارضة المسلحة بين دفيته خطاب الكراهية والانتقام، بعد توجيه تركيا لها أمراً بمحاربة الكورد وهدر دمهم عبر فتاوٍ تحرض على محاربتهم ليعمد بذلك على خنق المجتمعات وتضليلها بغية قضم أراض كوردستان الغربية وضمها لخارطتها، السلطة البعثية عبّئت المجتمع بالمفاسد الناجمة عن الرهبة والقمع اللا محدود، وبذلك فالمكبلون بالمفاسد لا يمكنهم إقامة ثورة، كونهم محاصرون بردود الفعل الاعتباطية غير الواعية وعقلهم الباطن مستعد للإنتقام والمناطحة كالثيران الهائجة دون خطا جلية تضع سبل الخلاص من ذهنية الاستبداد التي ورثها الأفراد هدفاً لابد منه ، لهذا فشلت الثورات في ما يسمى بالربيع العربي وإن حالف الحظ بعض من الدول كتونس ومصر من إجراء تبديل لرموز النظام والإبقاء على الهيكلية والذهنية كما هي ،حيث توزعت الشعوب على طبقة متسلطة وأخرى خلقت لتكون وقوداً لمعارك السلطتين القائمة والمعارضة، ان السلطة ترى نفسها خاصية أعلى وأبقى من شعوب دنيا أقل قدراً تحكمها بالدم والحديد، هذه الفجوة سرعان ما تتنامى لتكون مؤشرات لبروز صراعات يدفع ثمنها المجتمع دون سواه، إذ أنه متشبث بالجغرافيا وشغف بعيشه، يبحث بحذر عن حياة أكثر جودة، لكن سرعان ما يكتشف أن لكل خطوة باتجاه مناهضة السلطة لها ثمن غالٍ تدفعه من دماء أبناءها قرابيناً لحلم الديمقراطية والنظام العادل، إن الشعور بالتعالي متأتٍ من السلطوة كفعل ممارس، وهذا ما يوغر من صدر السلطوي ليكون كائناً حاقداً كارهاً للأضغف منه وحاسداً للأعنف والأكثر قوة منه، فما بين الحقد والحسد رغبة في استثمار جهود التابعين لمعارك عنيفة ضد الجماهير الناقمة وبتواطؤ مع رجالات السلطة الآخرين ممن يتشاركون ذات المصالح والمنافع في الإبقاء على المجتمع دنيِّاً مقهوراً لا يتمتع الفرد فيه بأدنى امتياز، إما بإلهاءه في الأعمال أو اعتقاله ، أو نفيه للبلاد البعيدة أو للسماء (الموت).
إشادة رجال الدين السلطويين بكلام مفاده أن الملك لله يعطي من يشاء ينزع الملك عمن يشاء وعليه فإن محاربة الحاكم ومناهضته هو مخالفة لإرادة الله وقدره، تتحلق الجماهير مقفلة أذهانها ومطفئة عقولها حول رمزية القائد الخالد وابنه البار، كون لا عقل إلا داخل رأس القائد، هي الخطة الأولى من خطط السلطة للإيقاع بعقول الجماهير وجرها مخصية لمقصلة القائد المفكّر،من ثم فلسان حال السلطة دائماً يكرر إما بقاءي أو الفوضى، ما إن فكرت الناس أن مناهضتها وإسقاطها كنظام مسألة وقت، حتى استيقظت أحقاد المجتمع المحتقن وبدأت الحروب الأهلية تفتك بها مما زال ذلك الشعار البائس وسقطت أقنعة الأغرار بانقيادهم لمعارضة مرتزقة مرتهنة تعتدي وتجيز قتل الشعب الكوردي بفتاوٍ دينية يخرجها حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وهكذا تتساقط الشعوب بزوال أخلاقها ومحبتها لبعضها بعضاً، إن السلطة كونت داخل أروقتها سلطات ينفرد روادها بطريقة قمع وبطش تختلف وتتمايز عن الأخرى، هذا بدوره تدريب للمجتمع على الإيذاء، أشبه بطريقة تجويع الكلب ليصبح الأكثر شراسة وعنف، تماماً أنتجت سلطة القمع مجتمعاً غوغاء، مفاهيمه مضطربة وأميل للانتقام منها إلى الوعي في مناهضة النظام ذهنية وسلوكاً ، حيث نجد دولاً تمارس إرهابها المنظم على الجماهير في الشرق الأوسط كما تفعل تركيا وإيران، لكن ينظر دوماً في إرهاب التنظيم أو الحزب كجناية لا تمر في الغالب دون عقاب، أما إرهاب الدولة فنجد أنه مشرعن بل وواجب من قبلها لدرء الخطر عنها، هذه الإزدواجية عززت بؤس المجتمع وانعدام ثقتها بالمستقبل، كون الحقيقة السوداء تتمثل في إيمان دولتي عالمي مطلق وهو أن الحق بيد القوي الباطش، مهما على صراخ المقموع وتجسدت آلامه ودماؤه أمام الأعين، فلا صوت يعلو على صوت المصالح بين الدول(تركيا وألمانيا).
فشل نظرية الدولة في الشرق الأوسط لا يعني بطلان الدولة كمفهوم ومؤسسة وفكر، بل يعود لفساد الذهنية والانقياد الأعمى للمناصب كتجسيد لشهوة السلطة وقداستها التاريخية المغلفة بالدين في الحقيقة، سعى الإنسان الطويل لينوب عن الله أو النبي أو المسيح في إدارة شؤون الناس ، بمعنى أن تكلس العقل الدولتي في الشرق الأوسط هو نتاج انغلاق في متاهة الإسلام السياسي، فبمراجعتنا لسير القادة الدينيين، وكذلك طريقة إبرازهم لحكم الحقبة الدينية ، وتحديداً فترة الحروب المقدسة، نجد أن المشكلة كامنة في تخلف المسلك الذهني للفرد بانعزاله في دوامة التاريخ واجتراره للماضي، لم يمت القيصر في الحقيقة ولم ينطوي العهد الإقطاعي أيضاً، بل نجد إحياء مستتباً ومحدثناً لطرق حكم الناس، إرث السلطة تراث عميق متين الجذور، ومن الصعب اقتلاعه، بل من سيقتلعه؟!، عادة وهو ما يجري في العهد المعاصر أن غالب الحركات الثورية التي تحولت فيما بعد لسلطوية، نجدها ترفع شعارات رفع المظالم عن الأمة وتخليصها من براثن الإستعمار ، وفي الآن ذاته تقع في فخ اجترار أصول التحكم بالمجتمع بغية البقاء لأطول أمد ، وتحقيق ما أمكن من نفوذ مادي واقتصادي يصب في مصلحة الفئة الحاكمة دون غيرها.
عدم المقدرة على انتظار تغيير النظام السياسي ونتيجة ذلك فإن عين الأفراد المضطهدين تتجه للهجرة وتأمين الحياة، هذا الاغتراب هو حديث الرواية، ويعطي لمحة عامة عن حياة الإنسان النفسية ، حالات الخوف التي تتلبسه ، انعدام الثقة ممن حوله، واستشعاره لإمكانية حدوث الخطر في أي لحظة، ففي ظل سلطة البعث، عمَّ القلق داخل النخبة الشابة، فمن خوف على الذات إثر اعتقال وشيك إلى نقص اقتصادي عوز متفاقم ، هذا يقود بطبيعة الحال للخروج من البلد، والصراع السياسي، الكبت والاعتقال ، يقود إلى حريق قادم ومرحلة اقتتال ونيران مستعرة تشق الحدود، يعم الاضطراب في رقعة الشرق الأوسط، وأخصها في مناطق تركة سايكس بيكو، والتقسيم الجائر الذي يعد ركيزة لاستقرار، وباعثاً للقلق المستمر، ذلك يخلق انعدام الأمن وغموض المستقبل ، حيث عانت شعوب سوريا في ظل نظام البعث توقاً فظيعاً لحرية ما غير محدودة بحدود، وما إن سنحت له الفرصة، حتى تراءى أن الحرية التي أرادها الناس مضطربة راكبة عدة موجات ما بين الإسلام السياسي واليسارية الديمقراطية أو التشبث بالنظام القائم تحت يافطة الأمان والسلامة والتصدي للمؤامرة الكونية، وبانت لعبة الأمم في الهرولة نحو آبار النفط والمراكز الاستراتيجية الحيوية، دون أن تلقي أدنى بال على معاناة الناس الهاربة والمدفونة تحت أنقاض بيوت مهدمة أو مقيمة في خيم متراصة لا تقي الناس من البرد وشبح الحاجة،إنها مشاهد رسمها الوحشيون في محاولة معينة في الاستحواذ على المشهد العام وإدارة البوصلة المعطوبة، فقد فهم أنصار الإسلام السياسي الحرية بأنها محاربة لما تصفهم بالمرتدين والكفار ونهب وسلب أموالهم وممتلكاتهم كغنيمة واغتصاب نساءهم كونهم سبايا، إذ أطلقوا العنان لتصوراتهم في امتلاك الحرية المطلقة المؤلهة والمشرعنة بفتاوِ دينية مستمدة من التراث الديني للغزوات، أما اليسار الديمقراطي فقد أخذ ينظر للحرية بوصفها نظام ديمقراطي لا مركزي ، يقر بحقوق الكورد ومكونات المنطقة في شمال شرقي سوريا (غربي كوردستان) دستورياً ضمن حكم ذاتي ، هكذا نجد أن فهم الحدث السوري ما بعد 2011 ، يتمايز بعدة مشاريع بالتزامن مع التواجد الروسي والأمريكي الإيراني التركي ، ناهيك عن مناطق مستعرة في جنوب العراق ولبنان وعقوبات على إيران بغية ردعها من التوسع،حيث طبيعة الحروب بالوكالة باتت واقعاً في عموم الشرق الأوسط، ولاسيما أن ورقة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)(20) ما تزال صالحة على الرغم من هزيمتها العسكرية الأخيرة والتي توجت بمقتل زعيمها، فالنقطة التي نتحلق حولها هو التوحش، صناعة الوحشية لتحقيق أجندات اقليمية تعد عملاً يمتهنه أنصار العدالة والتنمية في المنطقة ،ممن باتوا ممثلين عن الإسلام السياسي الذي لا يقل خطراً عن تمدد وتوسع إيران في المنطقة ، كل ذلك نتيجة عن إطلاق العنان للوحوش المستوطنة العقول والأذهان الجمعية التي كانت لسنوات راقدة في سجون الإرهاب الدولي المنظم لأنظمة الحكم الشمولية.
ليس غريباً أن تضع السلطة في مخافرها الأمنية وأقبيتها المخابراتية بشراً مجردين من المعرفة والإحساس، حيث أشار حليم يوسف لريادة أسوأ الجهّال وتسلمهم مراكز وأفرع الأمن وإشرافهم على التعذيب واقتياد المعتقلين لجهات مجهولة، في إشارة مهمة لعداء قوى السلطة مع المعرفيين المدركين لحجم المعضلة التي تكابدها الجماهير في ظل بقاء هكذا سلطات تعسفية تتحكم في صيرورة الحياة والزمن، وتجعل المجتمع غارقاً في متاهة الضياع والانزواء عن ركب الحاضر، يشير أيضاً لسحنات المحققين الأشبه بالذئاب والفئران ، وعقولها المتلبسة لجماجم الحمير والبغال، كل ذلك من صفات الحيوانات المنطبقة على سلوكياتهم الفجة وإمعانهم في قهر الناس، وإلزامهم أن يعيشوا حياة المشقة والضنك، وكذلك ليغوصوا أكثر في متاهة الخوف، وسراديب الضياع، حيث قطع صلات المجتمع بعضه بعضاً من أولى ركائز تفتيت الطاقات وزج الأفراد في صدامات نفسية تدفعهم لمزيد من العزلة والتقوقع في متاهات الإنغلاق، هذه الأنظمة هي حصيلة تلاقح شاذ بين العروبة الصحراوية والفاشية الأوروبية التي برزت في مرحلة الحربين العالميتين بصعود وتنامي دور الدول القومية، لهذا تتسم بكونها عابرة للبيئات، وتسهم في غزو المجتمع بالخوف، إينما كان يقطن في أماكن الخصوبة أو في أماكن اليباب، أنظمة متعطشة للجهل وتخريب العقول والملكات، لا تهتم بالخدمات ولا بالمرافق، وآخر همها تطوير وتنمية الدولة والمجتمع، وإنما استثمار موارد الأرض خدمة لأصحاب الجيوب المتحكمين بمفاصل الدولة ، وهم أصحاب الثروة والنفوذ المادي والسطوة العسكرية، لقد قبض نظام البعث على التنمية والموارد الاقتصادية وكذلك طوّع الجيش لأهدافه في البقاء، فبات الجيش والاقتصاد بيد عائلة الأسد ومن والاهم ، أما هدف المعارضة البائسة فتتمثل في رحيل العائلة وطبقتها العلوية الطائفية وجلوسها كبديل في حكم سوريا وترى نفسها ممثلة عن الطائفة السنية التي يتزعمها الأخوان المسلمون الموتورين منذ أيام أحداث حماة سنة 1982، إذ يلعب الفرد أخطر أدواره في قيادة المرحلة بما تتضمنها من مخاضات وإرهاصات عصيبة، ويكافح ضد التهميش والإبادة بأشكالها، لكنه بلا تنظيم مدني محتَّم عليه أن يتوجع أكثر، ولم يكن من المستطاع إنجاز تنظيمات مدنية في ظل توحش النظام البعثي المخابراتي، كون أي تنظيم مدني سياسي لا يمكنه أن يستمر ، مالم يكن له توجه عسكري راديكالي للتغيير عبر القوة، حيث تفشل الدول القوموية في صهر المكونات العرقية في بوتقتها وبالتالي لا تنجح في البقاء طويلاً، إذ تتفجر العصبيات المحلية والنوازع الطائفية وتتناقض مصالح القائمين على الحكم مع بعضهم ، وينفرط هذا التعاقد المصلحي بوجود لوبيات وأجهزة تتعارك فيما بينها، إثر الاختلاف الحاصل في عملها وتقاسم ثروات البلد ، مما يتفجر الوضع داخل السلطة أولاً ويتم استخدام شرائح المجتمع في تلك العملية الانقلابية ، لتبدأ الفئات بالتناحر تحت عدة مسميات منها ارتفاع الأسعار وتفشي الفساد والدعوة لتغيير النظام إلى إسقاطه، حيث كل المفاهيم السلطوية التي تضع الاستبداد قاعدة لبقاء الدولة، تبني بذلك مجتمعاً مقهوراً ، لا يستطيع أن يحرك ساكناً إزاء القهر اليومي الذي يتعرض له، بعكس ما ذهب إليه الخبير في علم الحيوان النرويجي (22) تورليف شيلدرب أن الاستبداد هو المبدأ الأساسي للاجتماع الإنساني والحيواني والنباتي والجمادي وهو الفكر الأساسي للعالم.
إن أي فكر هدفه تبرير الإعتداء على الجماهير من قبل الدولة ، يهدف لعزلة المجتمع، ولا كذلك يكون عثرة كبرى في طريق التغيير ، نرى تركيا وإيران اللتين تحكمان جماهيرها عبر الإسلام المذهبي بشقيه الإجراميين السني والشيعي، هدفه زعزعة المجتمع وضرب استقراره على المدى البعيد، إن الفكر السلطوي شرس بطبيعته ولا ينفك عن إرث الإستبداد، ويحرص أبداً على الإصرار في البقاء على ما هو عليه من غطرسة وغرور، دون التفكير بالنزول للشارع والتصالح مع الجماهير، لبدء مرحلة جديدة من التغيير والاستقرار الجوهري، التغيير عدو شرس للسلطة الاستبدادية، ووحش ذو حدين، وهو يمتلك أبداً الجانبين المتناقضين الإيجابي والسلبي لمرحلة جديدة تمتاز بخصائص وسمات تأخذ عن سابقتها وتضيف جديداً منبثقاً عن ذلك الحراك العنيف للأفراد المندفعين والمهرولين باتجاه الخلاص المزعوم، في كل نهضة شعبية دماء غزيرة تهرقها المنظومة السياسية عبر دفع مواليها لمحاربة مناوئيها فلا بد من كل سلطة تحافظ على بقاءها أن تدعم مواليها بامتيازات ترضيها وتجعلها إلى جانب السلطة أبداً ، ولتكون تلك الطبقة اليد الباطشة لها والمدافعة عنها، لهذا فالثورة كنعت تعسفي يعني نشوب حرب أهلية بطريقة ما، حرب الإرادات الجديدة ضد أصحاب الإرادات القائمة، فالإرادة المجتمعية على ضوء ذلك هي إرادة تتسم بالتابعية والمتحركة حسب مسارات التجييش الطائفي أو القومي أو الفئوي، وتستسلم لضغوطات الخارج وأجنداتها، الساعية لتبديل الأنظمة أو للضغط الاقتصادي عليها، هنا تبقى الجماهير عبارة عن وقود لتبدلات الدول وتلك الاملاءات الخارجية عليها في سبيل تغييرها مع الوقت أو إسقاطها، عبر خيارات التظاهرات السلمية وتليها الحرب الأهلية، وهكذا يغرق الشرق الأوسط في مستنقع الضياع فمن سوريا إلى اليمن والعراق ولبنان ، وآخرها إيران، شعوب غارقة في دماءها ، ووحوش تقصف وتقتل وتدمر إرضاء لغايتها في البقاء، يمكننا فهم حقيقة أن ذلك التماسك الاجتماعي يخدم بالضرورة الحراك الساعي لتغيير الأنظمة ، إلا أنه لا يكفل بقاءها على ما هي عليه، في ظل تعنت السلطة وإيمانها بأن العنف والقمع هي الوسيلة الأجدى لإيقاف التمرد، فالمصالح الدولية هي من تخلق أسساً للفوضى ، كما تكون أحياناً وراء صعود أنظمة على حساب سقوط أنظمة أخرى، ولا تأبه تلك المصالح لغزارة الدماء وهول الدمار، بل إنها تسعر التوحش تبعاً لحاجتها من تلك الدولة، حيث انهيارها الاقتصادي سيسهم في تفككها، وتفتتها مع الوقت، هو الحال مع سوريا كما سبقتها العراق ، وتفشى ذلك إلى مناطق أخرى كانت مصدراً لدمار جوارها كإيران ، وبقاء القضية الكوردية دون حل يفسح أكثر لتداخلات المصالح وإعادة ترتيب المنطقة بما ينسجم مع تطلعات الدول الكبرى للهيمنة على الموارد.
وما نعنيه بالهبة الشعبية المصطنعة هي الناتجة عن شعوب غير متجانسة تشترك بالمواطنة في ظل كيانات مصطنعة تم إنشاؤها حسب اتفاقية سايكس بيكو، على أنقاض السلطة العثمانية ، حيث لم تكن لهذه البلاد كيانات حقيقية منذ أن تقاسمت تلك الأراضي سلطة المماليك في الشام ومصر والمغول لما يعرف بالعراق الحالية، وأما كوردستان فقد كانت جزأين ملحقين للسلطة العثمانية من جهة والصفوية من جهة أخرى، تلك التقسيمات لم تحقق فيما بعد مجتمعاً طبيعياً متجانساً، وإنما قامت الأنظمة الحاكمة لتلك البلاد بخلق مشكلات مجتمعية ديمغرافية، وأخرى طائفية، فكانت الحروب الأهلية في لبنان، والانقلابات العسكرية في سوريا والعراق، ومن ثم تسلم البعث الحكم في البلدين ناهيك عن حروب سلطة الأسد للأخوان المسلمين واحتلالها لما يعرف بدولة لبنان، وانشغال سلطة صدام حسين بالحروب الخارجية مع إيران وكذلك غزو الكويت عدا عن التحديات الداخلية والإبادات التي اقترفتها سلطة البعث العراقي ضد شيعتها وكذلك المجازر الوحشية التي ارتكبت بحق الشعب الكوردستاني في حلبجة وعملية الأنفال المشهورة، إن كيانات الشرق الأوسط متشابهة في أنظمتها وكذلك ذهنية شعوبها، ولا تزال محميات دولية.
إن خطر الإيديولوجية القومية ذي الطابع العرقي المتعالي، متشح بعباءة الطائفية وقد جعل الكيان المصطنع بمثابة لغم كبير، يوشك أن ينفجر في أي لحظة، بفعل العامل الخارجي، أو الضغط الاقتصادي فملايين الناس بلا عمل وتعيش على خط الفقر، والبطالة تتشعب وتتضخم باستمرار، ناهيك من أن الفساد يطبق بمخالبه المؤسسات، الأمنية منها والخدمية، ذلك كله ضمن ذلك الكيان المتأرجح ، وواقع مزرِ يتفشى بضراوة في كافة الميادين وصعد الحياة، هكذا وببروز عوامل الضعف والانحطاط، يغيب مفهوم الاتحاد ويضمحل لصالح بروز جماعات الظلام المستفيدة من ذلك الخراب الروحي المجتمعي، لتجتث الحياة، ولتعمل على تفخيخ العقل من خلال الإسلام السياسي الذي وجد نفسه الوريث الشرعي للنظام البعثي الاستبدادي.
فالدين السياسي هو نوع من أنواع الإرهاب المباشر والذي يتسم بقسوته المستندة على آيات قرآنية تحض على الجهاد والعنف، وتجد من المرأة وسيلة إمتاع ومؤانسة، فتعيد للأذهان الجلد وقطع اليد، وطلب الجزية عنوة أو دونه القتال، فأي فلسفة في الدين، وأي معنى خارج الترهيب والترغيب؟!!، كما زعم(23) أنطون سعادة في كتابه نشوء الأمم : ص 69 “الدين من الوجهة العقلية،نوع من
". أنواع الفلسفة، في تعليل مظاهر الكون ، وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية.
لقد سعت الايديولوجيات القومية إلى قص القصص والأساطير التاريخية التي تبرز التفوق العرقي ، لتكون بذلك سلاحاً مسلّطاً ضد القوميات المجاورة، استخدمت التاريخ لتوظيفه كعامل مهيج ومحرض للتحارب والتنابذ مع الأقوام الأخرى، مما استطاعت أن تحوز على السلطة بيسر إثر دغدغتها لأحلام الجماهير عبر إذكاء نيران التعالي والتفوق القومي، فباتت النظم القومية سلاحاً مسلطاً على تلك الشعوب المتعالية نفسها إذ باتت تبريراً لتلك النظم ببقاء نفوذها واستبدادها وكذلك لترسيخ الطائفية خلف عباءة القومية ومحاربة الاستعمار، الامبرياليةوالصهيونية العالمية وما شابه ذلك من شعارات أغوت الشارع العربي وجعلته يسير كالعميان إلى مضافة النحر والهزيمة المعنوية، حيث اختزنت داخل الجغرافيا المتشعبة مشاكل متعددة وأذابت مكونات لغوية عرقية كثيرة ببوتقة لغة واحدة، ناهيك عن تخلف ذلك الخطاب المطعم بالإسلام السياسي، فبات الانفجار الشعبي وشيكاً والتنازع المنفعي ضرورة ، والخراب الروحي والتفكك الاجتماعي واقعاً محتّماً، ببروز حروب أهلية متشعبة وما تكاد تنشب في رقعة معينة حتى تتسع لتشمل بقاعاً أخرى.
تعليقات: (0) إضافة تعليق