حفلة أوهام مفتوحة وسبر وهم الهويات

Rêber Hebûn ريبر هبون Reber Hebun
0

حفلة أوهام مفتوحة وسبر وهم الهويات 
بقلم: ريبر هبون* 
لقد اختار هوشنك أوسي لروايته في المطلع جغرافيا جديدة يحشو في مناخها الأفكار الناقدة الحاملة في متونها جرأة الانسياب لتطرق ذهن المتلقي أياً كان ما يحمل من هيئة ووعاء معرفي، ليأخذنا في جولات لأماكن متعددة وحكايا متفرغة داخَلها التشعب والغموض حيناً والمصارحة والكشف حيناً آخر، ليضعنا في رواية تقترن مع أجناس فنون الكتابة الأخرى، لتتداخل وتتشابك مع الأجناس المنتمية للعلوم الإنسانية بما تحمل من فكر وسياسة تختص بالنقد الإيديولوجي، حيث أخذ الكاتب يستعير أحداث ذهاب الناتو لكوريا الجنوبية في فترة الصراع بين الكوريتين، والحرب التي راح ضحيتها حوالي مليون كوري جنوبي مدني، وتشرد ملايين آخرين كما قتل وجرح نحو 580000 من قوات الأمم المتحدة وكوريا الشمالية سنة 1953 ، حيث اختار الكاتب بطله في معمعان تلك الحرب ليفقد ذاكرته ويُستبدل بجندي تركي اشتبهوا به لاعتقادهم أنه عسكري تركي وليس ألفونس دي سخيبر البلجيكي الأصل، لقد بدأ الكاتب روايته بقوة وبتتابع أحداث متسارعة وبنص اتسم بالجاذبية والنقدية الساخرة، إلى جانب تشبّع الشخصية والمكان بالوصف الجسدي النفسي والجغرافي ، مستفيداً من حس الرواية التاريخية واندماجها مع الفلسفة لتتحدث عن وهم الانتماء وكيفية نسف الهوية إثر تشظي الذاكرة وفقدانها، لغاية موت ألفونس دي سخيبر دون أن يهتدي لذاكرته وتنتهي تلك الرواية لتبرز لنا سلسلة أخرى يديرها يان دي سخيبر الإبن والذي يشتغل كصحافي وروائي متعاطف مع الكورد لكونه ينتمي لها من جهة والدته، هنا يبرز هوشنك أوسي كناقد سياسي نجد أنه قد قام بتوظيف يان كباحث متقصي للشأن الكردي ومشكلاته السياسية الداخلية وقد انحدر مسار الرواية وانعطف بشدة لمناخ شرقي كردي مثخن بالصراع والعنف والتشظي المجتمعي، وبدأ التشعب والتسارع يأخذنا من حكاية لأخرى ومن شخوص لآخرين وهكذا دواليك .
انفراط عقد الرواية وتبعثرها بدأ بعد موت ألفونس دي سخيبر، لنجد أنفسنا أمام مشاهد متشعبة من الأمكنة والشخوص والقضايا المختلفة ما بين مشكلات الشرق والغرب وكل ذلك يدور في متاهة الوهم الذي يحاول الكاتب فك طلاسمه.
إلى لحظة موت ألفونس دي سخيبر بدأت الرواية تتسارع لتتغير فجأة بأبطالها وشخوصها وهذا الانتقال قد يكون مغامرة غير محمودة ما استدعى وراءه جملة من سرديات وأحياناً حوارات متقطعة يفرغ الكاتب من خلالها ما بجعبته من مشاغل فكرية ومعضلات فلسفية، وأخرى بذخ وإطناب لغوي لا يقلل من فنية النص ولا يفوقها في آن واحد، ووجدنا أيضاً هيمنة الروائي بأفكاره على الشخصيات بوضوح أكبر دون أن يفرد مساحة أكبر يترك عبرها للشخصيات لتعبر عن مكامنها هي لا مكامنه هو، إلا أن حفلة أوهام مفتوحة يجسد لوحة فسيفسائية غرائبية وظف فيها الكاتب أساليب السرد المتباينة على هيئة جمع روايتين أو أكثر ضمن رواية، إلا أن الشق المتعلق بموضوع الهوية وفقدان الذاكرة فاق الشقين اللاحقين للرواية من حيث الجودة والقوة والكيفية التي قام الكاتب في عرضها على نحو مشوق وسلس وبخيال سيمنائي جذاب، فمن ذاق عسل مطلع الرواية لن يستطعم بتذوق السكر الأبيض إلا أن المناخ العام للرواية يتمتع ببذخ لغوي تصويري دون وجود الألم وبما لاشك فيه فإن الرواية المؤثرة هي التي تحتوي على الألم والفرادة في تصويره، دون الفرار المنمق للسردية فهي تتميز باللعبة الفنية الدرامية دون ولوجها للمعاناة الجمعية. 
ركز هوشنك أوسي على النقد السياسي الإيديولوجي بعد تولي يان دو سخيبر دور البطولة فكان بوابة مفصلية شق من خلالها الكاتب ترعة باتجاه عرض وثائقيات تجسد مجموعة حوادث عبر هيئة سرديات وحواريات متقطعة وصاخبة فيما بعد حاول الكاتب التحدث عن المعضلات المتصلة بالعنف والخوف والتي يعانيها شخوص رواياته من الغرب إلى الشرق ودمج النفسي الذاتي بالسياسي الفكري بطريقة شيقة وذلك عبر التخلي عن الطرق المألوفة لعناصر القصة في المناخ الروائي فلا يوجد بطل رئيسي تدور العقدة حوله وإنما هنالك أفراد ،فالشخصيات الثانوية تتشارك كلها في لوحة الرواية تتحرك ويوجهها الروائي حيثما يريد ويرغب ويرى فيها وسائل لبروز أفكاره وحالاته الشعرية، نجد تعدد الأمكنة لدرجة التشعب وتعدد الأزمنة ما بين الأحداث الكورية والأحداث التي رافقت الحرب الأهلية السورية من هجرة ونزوح إلى قضايا اللجوء وتنامي اليمين المتشدد في ألمانيا. 
النص الأدبي بوابة الأفكار والشجون ، وطريقة يجري من وراءها الحديث عن قضايا اجتماعية وسياسية متنوعة وقد يجعل السرد الطويل النص رتيباً ويدفع القارئ بالملل والقفز على السطور استماتة في إنهاء الرواية بسرعة والخروج من هذه المتاهة السردية المجنونة، لا يجد الكاتب ضالته في نهاية الرواية لسان حاله أنه لم يعد لديه ما يقوله سوى اجترار ذاته والتحلق حولها، يعود ذلك إلى خلو النص من دراما تراجيدية، ونزوعه إلى الاستطراد والتشعب، وحينما تنفلت الشخوص وينعدم التحديد وتختفي العقدة الرئيسة ويصبح النص مفتوحاً على كل المسارات والاتجاهات والقضايا والأحداث كلوحة مكتظة بالألوان، هذه الفوضى اللونية ممتعة فنياً ، محدودة التأثير وجدانياً أشبه بالميتاسرد وهو شكل من الكتابة السردية الذي عماده التخييل ومنطلق من الذات، اقترب أوسي منها حينما راح يتطرق للباب الأخير من روايته المتناولة لقضية اختفاء يان دو سخيبر حيث يسيطر النثر على الرواية ما بعد موت سخيبر الأب، ليمد الكاتب الجسور بين الآخرين، ليكسر قوالب الجغرافيا المحددة بحدود، كثرة معالجته للقضايا الإشكالية وبتكثيف أرهقت متن الرواية إذ تنوء على حمل هكذا أثقال يستطيع البحث العلمي أو السياسي حملها على عاتقه أكثر، يحاول الكاتب سبر المآزق الإنسانية وعوالم الخوف والقهر في كل مكان، حيث يرى محمود أمين في الرواية بأنها : „البنية الأدبية الزمنية الإبداعية المعبرة بلغتها عن السردية، عن الوعي التاريخي المعرفي الوجداني من اتساع وعمق وتراكم والتباس وإشكالية وتأزم وتطلع ومواقف ودلالات مختلفة" تجسد الحس التقريري لدى هوشنك أوسي بمعرض نقده السياسي وتميز هذا الإسلوب نقدياً متهكماً ولاذعاً إثر أحداث عايشها وتحسس مقدار رهبتها في الداخل بمعرض حديثه عن أوميد سرختي كان بإمكانه أن تكون قصة الأخير رواية مستقلة بحد ذاتها لا مدمجة مع حكاية ألفونس دي سخيبر، هذا الدمج بين القصص والحكايا والعوالم والأحداث والسير لم يكن نقطة تحسب للمؤلف وإنما تظل الرواية المحددة بمناخ وشخوص معينين ينتمون لحكاية واحدة أكثر نجاعة من تلك السردية المتشعبة وبالنهاية فكما أنه لا يوجد نص مقدس وكامل يمكن فقط الثناء عليه والرقص على إيقاع كلماته فكذلك فإن الكتابة النقدية تنطوي على آراء فردية مهما نحت منحى الموضوعية ، إنما الكتابة الإبداعية بشقها النقدي أو الروائي تتميز بفنيتها النسبية ومجاورتها للصواب ، حيث يعمد النقد إلى تقويم الأعمال الفنية وكشف مواضع القوة والضعف فيها فهي وسيلة كشف وتجلٍ وبحث عن أكثر الأعمال الإبداعية أثراً وقرباً للكمال منها إلى الخلل.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!