الوضع الأثنو- ديني الراهن لكردستان وليد وثمرة لعملية تاريخية وأثنو-ثقافية مديدة ، شرعت منذ حقبة غابرة سابقة لتكوين الشعب الكردي، أي حين كان أسلاف الكرد يعيشون على سفوح جبال زاكَروز وفي قدماتها وفي ميسوبوتاميا الشمالية؛ حيث وفر لهم موطنهم أرضية جيدة وملائمة للتلاقح الثقافي مع سكان ثلاث مناطق تاريخية-حضارية وهي:إيران، بين النهرين وآسيا الصغرى. كانت عبادة قوى الطبيعة عصرذاك شائعة في أوساط قبائل وأقوام تلك المناطق ، حيث كان في ميسوبوتاميا (آن) إله السماء و(إنليل) إله الأرض…إلخ ، وكان في إيران (آهورا) إله السماء أو أبو السماء، والديفات(1)..إلخ.
كما ظهر في إيران دين زردشت في حقبة لاحقة ، وكان مونوتيزمياً(توحيدياً) انتشر في عموم المنطقة ، وأدى دوراً كبيراً في عملية التطور الروحي والثقافي لقاطنيها ، وقد ناهض كأيّ دين توحيدي جميع الآلهة الأخرى منذ ظهوره ، وأنكر وجودها وعبادتها، وخاصة الديفات ؛ إذ نعت زردشت كل الذين لم يتقبلوا ويعتنقوا دينه بـ(ديف يَسنا) أي (عبدة الديفات).ولئن قاومه قسم كبير من سكان المنطقة، لاسيما من الجبليين والرعاة الذين لم يتخلوا عن آلهتهم القديمة؛ فقد اضطرّ رجال الدين الزردشتي في العهد الساساني إلى نوع من المصالحة والتطبيع مع المعتقدات الموغلة في القدم، بأن حسبوا أغلب الآلهة القديمة في منزلة الملائكة، فشمل التغيير والتجديد العقيدة الزردشتية، بحيث عُرفت عهدذاك ولاحقاً بـ(المزدكية).
يبدو أن أكثر الكُرد كانوا زردشتيين قبل الإسلام؛ والدليل على ذلك يتمثل في مجمل الآثار والبصمات الزردشتية الظاهرة على مناحي الحياة الدنيوية والروحية الراهنة للكرد مثل: القَسَم بالنار، عيد(الكومسا) في هورامان ، الآلهة السبعة للإيزديين(2) وسباعي أهل الحق…إلخ لكنما لايعني هذا أن الزردشتية كانت هي الديانة الوحيدة السائدة في المنطقة، قبل ورود الإسلام إليها؛ فقد تعايشت معها ديانات أخرى إلى حد ما كاليهودية والمسيحية،فضلاً عن الديانات والمعتقدات القديمة، ولو بدرجة أقل، وربما طالتها التغيرات كعبادة القوى الطبيعية.
لقد انتشرت منذ القدم مجموعات من اليهود في سائر أنحاء كردستان ، حيث عاشت في غيتوات إلى حد ما، ومع ذلك لم يكن هنالك مناص من قيام علائق وروابط بين اليهود وعموم سكان المنطقة من معتنقي الديانات الأخرى؛ وعليه فإن بصمات اليهود بادية للعيان في كردستان وسائر أنحاء المنطقة كأسماء الأشخاص قبل كل شيء، فهي تتسم بالطابع اليهودي، أو تخص اليهود حصراً، وبصورة واسعة، لا في المنطقة المعنية وحدها، بل وفي المعمورة قاطبة مثل: داوود ، يعقوب وسليمان…إلخ وفي عملية الختان وهي عادة أثنو- دينية..وكذلك لاتخلو مدينة أو قصبة كردستانية من وجود حيّ أو محلة لليهود وباسم (محلة أو حي اليهود) بالذات، ومازال مثل هذا الإسم مستخدماً في بعض بعض المدن والقصبات. ثم إن اليهود بدورهم قد عاشوا طوال الحقب في كردستان تحت التأثير الثقافي والإجتماعي الكردي ، ومازالوا حتى في إسرائيل، التي هاجروا أو رُحّلوا إليها، متمسّكين بثقافتهم الكردية ومحافظين عليها ، حدّ حسبان أنفسهم كرداً؛ حيث يعرّف أيّ واحد منهم نفسه بـ(أنا كردي)، أمّا الديانة المسيحية فقد إنتشرت في أوساط الكرد منذ بداية ظهورها، بل وأضحت كردستان ملاذاً لمعتنقيها(المضطهدين والمطاردين-المترجم) ومازال الكثير من المسيحيين على دينه؛ وهنا يمكننا القول أن الكرد المسيحيين الآن مثلهم مثل الأقوام الأخرى كالشعب الآثوري (الآشوري) هم حفدة أولئك المسيحيين القدامى، الذين آمنوا بالديانة المسيحية في هذه الديار، وأصبحوا من معتنقيها؛ حيث إنسدّت السبل كافة أمام التحوّل إلى الدين المسيحي وأيّما دين آخر بعد إنتشار الإسلام وهيمنته على عموم المنطقة(3) ويعد الآثوريون شعباً مستقلاً له سماته الخاصة، وأكبر تجمع مسيحي في كردستان، ويتبدّى التأثير الكردي على ثقافتهم المادية والروحية ، كما نجد الكرد المسيحيين أقرب إلى الآثوريين ممّا هم إلى الكرد المسلمين ؛ بتأثير العامل الديني.
يعود إنتشار الإسلام في أرجاء كردستان إلى أيام إحتلال العرب لإيران ؛ ويُعزى انتشاره السريع وهيمنته في كردستان، مثلما الحال في عموم إيران إلى عاملين بالغيّ التأثير:
الأول: عامل القوة؛ أي جبراً وبحد السيف، والذي كان الأسلوب الوحيد للعرب في بداية غزواتهم.
الثاني: العامل الإقتصادي ؛ إذْ كان الناس ينخرطون في الإسلام تخلصاً من دفع الضرائب المفروضة عليهم من قبل المحتلين، ومنها : الجزية والخراج.
وهنالك عامل آخر مهم لايمكن إغفاله ؛ لأهميته البالغة في تقبل الكرد للإسلام ، ويتمثل في بساطة ويسر فرائض وشعائر اعتناق الدين الإسلامي ؛ إذْ كان يكفي المرء أداء(الشهادة) أمّا الشعائر والفرائض الأخرى كالصلاة والصوم..إلخ فلم يُشترط أداؤها في كل آن ومكان وتحت مراقبة أصحاب السلطة الجديدة (4)
مع مضيّ الوقت تعزز موقع الدين الإسلامي، وترسخ في كردستان، شأنه شأن إنتشاره في إيران قاطبة؛ بحيث صار جزءاً لايتجزأ من أسلوب حياة سكانها.ولكن لكون تغيّر العقائد الدينية والأفكار والثقافة ظاهرة معقدة لاتتحقق إلاّ في سياق عمليات تاريخية طويلة الأمد ؛ فقد ظل في كردستان معتنقو الزردشتية وشتى الديانات والمعتقدات القديمة حتى القرن السادس عشر الميلادي. وقد مهد الوضع الديني المختلط لنشوء العقائد الدينية السينكريتية (المختلطة) في كردستان. ليس هذا فحسب، بل ويمكن القول ان تحليل مصادر الحياة الروحية والمادية للكرد المسلمين- والتي هي أصلاً ثمرة للوضع الديني والثقافي نفسه- يؤكد لنا أن ديانة ومعتقدات الكرد المسلمين قد تكونت من عناصر وأصول متنوعة ومتعددة، بل ويمكننا بيسر أن نشخص عناصرها القديمة والعريقة إلى جانب المعتقدات والأفكار الإسلامية. لقد أضحى الدور والنشاط المشهودان اللذان لعبهما الكرد في مجمل الحركات الدينية والسياسية، خلال حقب الخلافة الإسلامية، أضحى سبباً لنشوء وشيوع نحل وملل وطرق دينية شتى في كردستان. ورغم وجود معتنقي وممثلي أغلب المذاهب والطرق؛ فإن أغلب الكرد من السنّة، وأغلب هؤلاء السنّة على المذهب الشافعي..وأهم الطرق الصوفية الشائعة في كردستان: القادرية والنقشبندية. أمّا الكرد الشيعة فهم من الإماميين، أي انهم جعفريون ، ويقطن أغلبهم كردستان إيران( مناطق كرماشان ولُرستان بالأخص/ج.ز) وثمة قسم منهم في كردستان العراق (وأغلبهم فيليون/ج.ز)
إن مايميّز الجو الديني للكرد إلى حد كبير، هو وقوع هذا الجزء أو ذاك من كردستان داخل حدود هذه الدولة أو تلك من الدول الاقليمية؛ ففي إيران تتصف العلائق المذهبية والطائفية بالتعقيدات والحدة؛ بتأثير الدور الكبير للأيديولوجيا والسياسة الشيعية لحكامها، والكرد السنّة محاطون مباشرة بالشيعة: بالآذريين شمالاً، والكرد الشيعة جنوباً، وبالفرس شرقاً وجنوباً. أما في العراق فرغم كون أكثر السكان من العرب الشيعة الإماميين؛ فإن نزاعهم مع السنّة غيرمحسوس بالعكس ممّا في إيران. ويمكننا الجزم أن العرب الشيعة أكثر إنسجاماً مع الكرد برغم كون أغلبهم من السنّة؛ والسبب في رأينا هو كون هذين الفريقين مناهضين لأنظمة الحكم المتعاقبة(حكم أقلية العرب السنّة/ج.ز) ولا صلة لهذا الموقف بالعامل المذهبي فيما يتعلق بالكرد. هذا من جانب ، ومن الجانب الآخر ليس الكرد السنّة والعرب الشيعة جيراناً، وليس هناك تماس أو إحتكاك مباشر وواسع بينهم؛ حيث يفصلهم العرب السنّة عن بعضهم البعض، ماعدا سكان مدينتي خانقين ومندلي وقراهما، والذين يتكونون من الشيعة والسنّة، ولقد خلق التسامح والإنسجام المذهبيان اللذان يتسم بهما الجميع في تلك المناطق وضعاً نموذجياً. وفي تركيا تبدو الدولة ناكرة للعامل الديني في إطار العلائق الإجتماعية والسياسية، لكنما الحقيقة تنفي ذلك؛ حيث لم يفقد الدين دوره المهم والمؤثر، فمازال مهيمناً على حياة المواطنين، وبالأخص على طبيعة علائق السنّة بالعلويين(الشيعة)، والمسلمين بالمسيحيين، والمسيحيين بالعلويين.
وكما ذكرنا سالفاً، فإن رواسب الزردشتية والعقائد الدينية الأقدم منها في كردستان ؛ قد إستحالت أساساً لنشوء ديانات ومعتقدات سينكريتية(مختلطة) مثل: الإيزدية ، أهل الحق والعلوية. ومهما بدت هذه الديانات تحت تأثير المباديء والأصول الإسلامية ، لايمكن حسبانها مذاهب ونحلاً إسلامية ؛ لأن كل واحدة من هذه المجموعات الأثنودينية ذات أصول ونظم ورؤية خاصة بها إسخاتولوكياً(5) وكوسموكونياً(6) وطقوسياً، وكلها يوجد على شاكلة(منظومة) في كتاب أو نص ديني.
وفي وقتنا الحاضر نشهد انحسار دور العامل الديني وتأثيره في عموم كرستان ؛ بتأثير تطور وتقدم المجتمع الكردي وتغيّر العلائق الإجتماعية ، ولقد أدت حركة التحرر القومي دوراً مهماً في تطور العلائق بين معتنقي الديانات المختلفة من شتى شرائح الأمة الكردية وطبقاتها.
-----------------------------------
إشارات وهوامش (د. ميران والمترجم):
* نص إستنتاج إطروحة دكتوراه باللغة الروسية ( بالعنوان نفسه) للأستاذ رشاد ميران، الذي ترجمها ونشرها باللغة الكردية عام1993 في ستوكهولم.
(1) جمع (ديف، ديو) ترجمتها الحرفية(غول ، عفريت) وتعني الإله والإلاهة، وهي مشابهة لمفردة (Dio – الله) باللغة اللاتينية واللغات المنحدرة منها (ج.ز)
(2) ليس للإيزديين سبعة آلهة ، وإنما سبعة ملائكة وإله واحد (ج.ز)
(3) لاشك في انه كان للأشخاص والإرساليات التبشيرية نشاط دائم هنا وهناك، حيث كسبوا بعض الأفراد والزمر، لكننا لانجانب الحقيقة إن قلنا بأن الكسب نادراً ماكان يحصل في أوساط المسلمين، كما لم يتخذ شكل ظاهرة ملحوظة (د. ميران)
(4) هنالك عوامل أخرى لاتقل أهمية عمّا أوردها د.ميران، إن لم تكن أشد تأثيراً (ج.ز) ومنها:
أ- الأوضاع غيرالمستقرة في إيران؛ نتيجة القلاقل والحروب الداخلية والخارجية، ومنها النزاع الدائم بين الأكاسرة والقياصرة.
ب- تفشي الإنفلات والفساد في أوساط رجال الدين، وسيادة الممارسات الصورية المعقدة والمتحجرة في أداء الطقوس والشعائر الدينية، وشيوع الإضطهاد الديني.
ج- الإضطهاد الطبقي الذي كان يعاني منه سائر المسحوقين على أيدي الأرستقراطية الحاكمة، التي كان كبار الروحانيين يؤازرونها؛ لتشابك مصالحهم الخاصة.كما ان الحكام الساسانيين رغم إنحدارهم من أرومة كردية، حدا بهم الإنسلاخ القومي والإستحواذ الطبقي إلى إضطهاد الكرد وإستغلالهم.
د- كان الكرد عموماً مهيّئين لإعتناق الإسلام؛ لأنهم لم يكونوا وثنيين ومن عبدة الأصنام، وإنما كانوا زردشتيين(موحدين) أي كالأحناف.
هـ- طبيعة الإسلام الحنيف بمبادئه الإصلاحية الداعية إلى نبذ التمييز العنصري والتفاوت الطبقي، إضافة إلى نهج التوازن بين الشؤون الدنيوية والأخروية، وذلك قبل أن تستغل الأرستقراطية الأموية الإسلام لمآربها ومراميها الطبقية والعنصرية.
(5) منظورها الأسطوري لكيفية إنتهاء الدنيا وحلول آخر الزمان(د.ميران)
(6) قصة كيفية خلق السماء والأرض… (التكوين)(د.ميران)
-----------------------
- ترجمة: جلال زنكَابادي
- كلكامش أورك 8 اكتوبر 2012
- كلكامش أورك 8 اكتوبر 2012